وحاول ابن هرثمة في الطريق إحسان عِشرة الإمام عليه السلام وكان يرى من الإمام عليه السلام الكرامات التي ترشده إلى عظمة الإمام ومكانته وحقيقة أمره ، وتوضح له الجريمة التي يرتكبها في إزعاج الإمام عليه السلام والتجسّس عليه .

عن يحيى بن هرثمة قال : رأيت من دلائل أبي الحسن الأعاجيب في طريقنا ، منها : أنّا نزلنا منزلاً لا ماء فيه ، فأشفينا دوابنا وجمالنا من العطش على

ــــــــــــــ

(١) تذكرة الخواص : ٣٢٢ .


التلف ، وكان معنا جماعة وقوم قد تبعونا من أهل المدينة ، فقال أبو الحسن : كأنّي أعرف على أميال موضع ماء .

فقلنا له : إن نشطت وتفضّلت عدلت بنا إليه وكنّا معك فعدل بنا عن الطريق .

فسرنا نحو ستة أميال فأشرفنا على واد كأنّه زهو الرياض فيه عيون وأشجار وزروع وليس فيها زرّاع ولا فلاّح ولا أحد من الناس ، فنزلنا وشربنا وسقينا دوابّنا وأقمنا إلى بعد العصر ، ثم تزوّدنا وارتوينا وما معنا من القرب ورحنا راحلين فلم نبعد أن عطشت .

وكان لي مع بعض غلماني كوز فضّة يشده في منطقته وقد استسقيته فلجلج لسانه بالكلام ونظرت فإذا هو قد أنسى الكوز في المنزل الذي كنّا فيه فرجعت أضرب بالسوط على فرس لي ، جواد سريع واغد السير حتى أشرفت على الوادي ، فرأيته جدباً يابساً قاعاً محلاً لا ماء ولا زرع ولا خضرة ورأيت موضع رحالنا وروث دوابنا وبعر الجمال ومناخاتهم والكوز موضوع في موضعه الذي تركه الغلام فأخذته وانصرفت ولم أعرفه شيئاً من الخبر .

فلمّا قربت من القطر والعسكر وجدته عليه السلام ينتظرني فتبسّم ولم يقل لي شيئاً ولا قلت له سوى ما سأل من وجود الكوز ، فأعلمته أنّي وجدته .

قال يحيى : وخرج في يوم صائف آخر ونحن في ضحو وشمس حامية تحرق فركب من مضربه وعليه ممطر وذنب دابته معقود وتحته لبد طويل .

فجعل كل مَن في العسكر وأهل القافلة يضحكون ويقولون هذا الحجازي ليس يعرف الري ، فسرنا أميالاً حتى ارتفعت سحابة من ناحية القبلة وأظلمت وأضلتنا بسرعة وأتى من المطر الهاطل كأفواه القرب فكدنا نتلف وغرقنا حتى جرى الماء من ثيابنا إلى أبداننا وامتلأت خفافنا وكان أسرع وأعجل من أن يمكن أن نحط ونخرج اللبابيد ، فصرنا شهرة ومازال عليه السلام يتبسّم تبسّماً ظاهراً تعجّباً من أمرنا .

قال يحيى : وصارت إليه في بعض المنازل امرأة معها ابن لها أرمد العين ولم تزل تستذل وتقول معكم رجل علوي دلّوني عليه حتى يرقى عين ابني هذا .


فدللناها عليه ، ففتح عين الصبي حتى رأيتها ولم أشكّ أنّها ذاهبة فوضع يده عليها لحظة يحرّك شفتيه ثم نحّاها فإذا عين الغلام مفتوحة صحيحة ما بها علّة(١) .

ومرّ الركب ببغداد ـ في طريقه إلى سامراء ـ فقابل ابن هرثمة واليها إسحاق بن إبراهيم الطاهري فأوصاه بالإمام عليه السلام خيراً واستوثق من حياته بقوله : يا يحيى إنّ هذا الرجل قد ولده رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ، والمتوكل مَن تعلم ، وإن حرّضته على قتله كان رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم خصمك فأجابه يحيى : والله ما وقفت له إلاّ على كل أمر جميل(٢) .

وحين وصل الركب إلى سامراء بدأ ابن هرثمة بمقابلة وصيف التركي ـ وهو ممّن كان يشارك في تنصيب الخليفة وعزله ومناقشته في أعماله ـ وممّا قاله وصيف ليحيى : والله لئن سقطت من رأس هذا الرجل ـ ويقصد به الإمام الهادي عليه السلام ـ شعرة لا يكون المطالب بها غيري .

قال ابن هرثمة : فعجبت من قولهما وعرّفت المتوكّل ما وقفت عليه من حسن سيرته وسلامة طريقه وورعه وزهادته وأنّي فتّشت داره فلم أجد فيها غير المصاحف وكتب العلم ، وإنّ أهل المدينة خافوا عليه ، فأحسن جائزته وأجزل برّه(٣) .

ــــــــــــــ

(١) إثبات الوصية : ٢٢٥ .

(٢) مروج الذهب : ٤/٨٥ .

(٣) مروج الذهب : ٤/٨٥ ، وتذكرة الخواص : ٣٥٩ .


غير أنّ هذا الإكرام الذي ادّعاه ابن هرثمة يتنافى مع ما أمر به المتوكل من حجب الإمام عليه السلام عنه في يوم وروده إلى سامراء ، ويزيد الأمر إبهاماً وتساؤلاً هو أمره بإنزال الإمام عليه السلام في مكان متواضع جدّاً يُدعى بخان الصعاليك(١) .

قال صالح بن سعيد : دخلت على أبي الحسن عليه السلام فقلت له : جعلت فداك في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع ، خان الصعاليك(٢) .

وليس ببعيد أن تكون الصورة التي نقلها يحيى للمتوكل عن الإمام عليه السلام ومدى نفوذ شخصيّته حتى عند الولاة والقوّاد مدعاةً للضغط على الإمام عليه السلام ، والسعي للتضييق الحقيقي عليه من خلال الحيلولة بينه وبين ارتباطه بقواعده وإن كان ذلك بالتظاهر بالإكرام كما نراه في النص الذي نُقل عن يحيى ، ولا يغيب عن مثل يحيى مدى كره المتوكل لآل أبي طالب بشكل عام وللإمام الهادي عليه السلام بشكل خاص .