بعد اغتيال الإمام الجواد عليه السلام من قِبل المعتصم عهد المعتصم إلى عمر بن الفرج أن يشخص بنفسه إلى المدينة ليختار معلّماً لأبي الحسن الهادي عليه السلام البالغ من العمر آنذاك ست سنين وأشهراً ، وقد عهد إليه أن يكون المعلّم معروفاً بالنصب والانحراف عن أهل البيت عليهم السلام ليغذّيه ببغضهم .

ولمّا انتهى عمر إلى يثرب التقى بالوالي وعرّفه بمهمّته فأرشده الوالي وغيره إلى الجنيدي الذي كان شديد البغض للعلويين ، فأرسل خلفه وعرّفه بالأمر فاستجاب له بعد أن عيّن له راتباً شهرياً ، وعهد إليه أن يمنع الشيعة من زيارته والاتصال به .

بادر الجنيدي إلى ما كان اُمر به من مهمّة تعليم الإمام عليه السلام إلاّ أنّه قد ذهل لمّا كان يراه من حدَّة ذكائه ، والتقى محمد بن جعفر بالجنيدي فقال له : ( ما حال هذا الصبي الذي تؤدّبه ؟ ) فأنكر الجنيدي ذلك وراح يقول :

( أتقول : هذا الصبي ؟!! ولا تقول هذا الشيخ ؟ أنشدك بالله هل تعرف بالمدينة مَن هو أعرف منّي بالأدب والعلم ؟ ) .

قال : لا .

فقال الجنيدي : ( إنّي والله لأذكر الحرف في الأدب ، وأظن أنّي قد بالغت ، ثم إنّه يملي أبواباً استفيده منه ، فيظن الناس أنّي أُعلّمه ، وأنا والله أتعلّم منه ) .

وانطوت الأيام فالتقى محمد بن جعفر مرّة أُخرى بالجنيدي ، فقال له : ما حال هذا الصبي ؟


فأنكر عليه الجنيدي ذلك وقال : ( دع عنك هذا القول ، والله تعالى لهو خير أهل الأرض ، وأفضل مَن برأه الله تعالى ، وإنّه لربّما همَّ بدخول الحجرة فأقول له : حتى تقرأ سورة ، فيقول : أيّ سورة تريد أن أقرأها ؟ فاذكر له السور الطوال ما لم يبلغ إليها فيسرع بقراءتها بما لم أسمع أصحّ منها ، وكان يقرأها بصوت أطيب من مزامير داود ، إنّه حافظ القرآن من أوّله إلى آخره ، ويعلم تأويله وتنزيله .

وأضاف الجنيدي قائلاً : ( هذا الصبي صغير نشأ بالمدينة بين الجدران السود فمن أين عَلِم هذا العلم الكبير ؟ يا سبحان الله !! ثم نزع عن نفسه النصب لأهل البيت عليهم السلام ودان بالولاء لهم واعتقد بالإمامة )(١) .

لقد كان لأدب الإمام الهادي عليه السلام وحسن تعامله مع معلّمه ( الناصبي ) أثر كبير في تحوّله الاعتقادي وإيمانه بزعامة أهل البيت عليهم السلام .

ثمّ إنّ الجنيدي نفسه صرّح لغيره أنّه تعلّم من الإمام عليه السلام ولم يأخذ الإمام عليه السلام العلم منه ؛ وتلك خاصة للإمام وآبائه عليهم السلام ، فإنّ الإمام الرضا عليه السلام لمّا سُئل عن الخلف بعده أشار إلى الإمام الجواد عليه السلام وهو صغير ربّما في عمر كعمر الإمام الهادي عليه السلام ، واحتجّ الرضا عليه السلام بقوله تعالى :( وآتيناه الحكم صبيّاً ) فالصغر والكبر ليس مورداً للإشكال فإنّ الله سبحانه جعل الإمامة امتداداً للنبوّة لتقتدي الناس بحملة الرسالة ، فهم القيّمون عليها والمجسّدون لها تجسيداً كاملاً ؛ ليتيسّر للناس تطبيق أحكام الله تعالى بالاقتداء بالأئمة عليهم السلام .

وتعكس لنا هذه الرواية الاهتمام المبكّر من قِبل المعتصم بالإمام الهادي عليه السلام من أجل تطويق تحرّكه وعزله عن شيعته ومريديه ، كما يتّضح ذلك من أمره بأن يمنع اتصال الشيعة به .

يُضاف إلى ذلك أنّ المبادرة لتعليم الإمام في سنّ مبكّرة لا يبعد أن يكون للتعتيم على علم الإمام وهو في هذا العمر كما حدث لأبيه الجواد عليه السلام حين تحدّى كبار العلماء ولم يعهد منه أنّه كان قد تعلّم عند أحد .

ــــــــــــــ

(١) مآثر الكبراء في تاريخ سامراء : ٣ / ٩١ ـ ٩٥ .


فهذا الإسراع يُعدّ محاولة للحيلولة دون بزوغ اسم الإمام الهادي عليه السلام وسطوع فضله عند الخاص والعام ؛ لأنّ ما سوف يصدر منه يمكن أن يُنسب إلى معلّمه ومربّيه .

غير أنّ الإمام عليه السلام بخُلقه وهدوئه استطاع أنّ يفوّت الفرصة على الخليفة وبلاطه ويُظهر للناس علمه وإمامته التي عيّنها الله له .