ووردت أخبار جديدة تفيد بأن الحارث بن أبي ضرار ـ زعيم بني المصطلق ـ يعدّ لغزو المدينة فاستوثق النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم ـ كعادته قبل كل تحرك ـ من صدق الخبر وندب المسلمين فخرجوا إليهم والتقوا عند ماء يدعى (المريسيع) ونشبت الحرب ففر المشركون بعد قتل عشرة اشخاص منهم، وغنم المسلمون

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية لابن كثير: ٣ / ١٧٧، الطبقات الكبرى: ٢ / ٦٢.


غنائم كثيرة وسُبيت أعداد كبيرة من عوائل بني المصطلق، كانت من بينهم جويرية بنت الحارث فأعتقها النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم ثم تزوجها، وأطلق المسلمون ما في أيديهم من الأسرى إكراماً لرسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم ولها(١) .

وفي هذه الغزوة كادت أن تقع فتنة بين المهاجرين والأنصار بسبب بعض النعرات القبليّة ولما علم النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم بذلك قال (دعوها فإنها فتنة) (٢) . وأسرع عبد الله بن اُبي رأس النفاق يبتغي الفتنة ويؤجج الخلاف فوجّه اللّوم لمن حوله من أهل المدينة إذ آووا ونصروا المهاجرين ثم قال: أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل، وكادت أن تفلح مساعى ابن اُبي لولا أنّ النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم ـ بعد أن توثق من تحريض ابن أبيّ ونفاقه ـ أمر بالعودة إلى المدينة على وجه السرعة رافضاً رأي عمر بن الخطاب بقتل ابن أبي فقال صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم : (فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟! لا) (٣) . ولم يأذن النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم بالاستراحة في الطريق فسار بالمسلمين يوماً وليلة ثم أذن لهم بالاستراحة فأخلد الجميع للنوم من شدة التعب ولم تتح فرصة للتحدث وتعميق الخلاف. وعلى أبواب المدينة طلب عبد الله بن عبد الله بن أبي الإذن من النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم في قتل أبيه بيده دون أحد من المسلمين خشية أن تثيره العاطفة فيثأر لأبيه فقال نبي الرحمة صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم : (بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا) . ثم وقف عبد الله (الأبن) ليمنع أباه من دخول المدينة إلاّ بإذن من الرسول الأكرم صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم (٤) ، وفي هذا الظرف نزلت سورة المنافقين لتفضح سلوكهم ونواياهم.

ــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري: ٣ / ٢٠٤، إمتاع الأسماع: ١ / ١٩٥.

(٢) السيرة النبوية: ١ / ٢٩٠.

(٣) إمتاع الأسماع: ١ / ٢٠٢.

(٤) راجع السيرة النبوية: ٢ / ٢٩٢.