مرّت الأيام التي تلت معركة بدر ثقيلة على قريش والمشركين. وفي المدينة لم يزل النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم يواصل عمليّة بناء الإنسان والدولة حيث كانت الآيات الإلهية تترى وهي تشرّع للإنسان سلوكه وحياته والنبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم يفصّل التعاليم ويطبق الأحكام ويهدي إلى طاعة الله.

وتظافرت الأسباب والدواعي عند مشركي مكة ومن والاهم لخوض حرب جديدة ضد الإسلام تزيح عن كاهلهم كابوس الهزيمة في بدر وتطفىء غليل الحقد

ــــــــــــ

(١) وقعت معركة أحد في شوال من السنة الثالثة للهجرة.


الذي مازال يؤجّجه أبو سفيان زعيم البيت الأُموي والخاسر الأكبر في بدر، كما كان عويل النساء ومطامع التجار الذين فقدوا كل الطرق الآمنة للتجارة عاملين آخرين لذلك.

فكانت الحرب محاولة لإضعاف المسلمين وتأمين طرق التجارة إلى الشام، والحدّ من تنامي قوة المسلمين العسكرية لتجنيب مكة من خطر الاحتلال والقضاء على الشرك فيها. ومما أسهم في إعداد الحرب أيضاً تحريض يهود ومنافقي المدينة لقريش وغيرها لغزو المدينة والقضاء على الإسلام.

وسارع العباس بن عبد المطلب إلى الكتابة للنبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم يخبره عن اجتماع كلمة قريش على الحرب وتهيئتهم للعدّة والعدد حيث استنفروا معهم القبائل واتخذوا عدة أساليب لإثارة الحرب والعزيمة على القتال إذ خرجت النسوة معهم.

ووصل الكتاب سرّاً إلى النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم فكتم الخبر عن المسلمين حتى يستوضح الأمر ويعدّ له العدّة اللازمة.

واقتربت جحافل الشرك من المدينة فبعث النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم الحباب بن المنذر سراً ليستطلع العدو ـ بعد أن بعث أنساً ومؤنساً ابني فضالة ـ فجاء الخبر والوصف متوافقين مع كتاب العباس وخبر ابني فضالة، وبات عدد من المسلمين من الذين أخبرهم رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم بالخبر في حيطة وحذر خشية مداهمة العدو.

ثم استشار رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم أصحابه بعد أن أعلن قدوم قريش للحرب فاختلفت آراؤهم بين التحصّن في المدينة أو الخروج لملاقاة العدو خارجها. ولم يكن عسيراً على النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم أن يحدد الخطة مسبقاً لكنه أراد أن يشعر المسلمين بمسؤوليتهم. ثم كان الاتفاق على خروج المسلمين للقاء العدو وقتاله خارج المدينة. ثم صلّى النبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم صلاة الجمعة وصعد المنبر وخطب وأخذ يعظ الناس ويذكّرهم بطاعة الله وأمرهم بالجد والجهاد والصبر. ثم نزل ودخل داره ولبس


لامته مما أثار المسلمين وهزهم بشدة وظنوا أنهم أكرهوا الرسول صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم على الخروج من المدينة فقالوا: يا رسول الله ما كان لنا أن نخالفك، فاصنع ما بدا لك. فقال صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم :ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل (١) .

وخرج النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم في ألف مقاتل من المسلمين ورفض أن يستعين باليهود ضد المشركين قائلاً:لا تستنصروا بأهل الشرك على أهل الشرك (٢) . ولم يستطع المنافقون إخفاء حقدهم فانخذل عبد الله بن أبي عن رسول الله بثلاثمئة وبقي رسول الله بسبعمئة وكان المشركون أكثر من ثلاثة آلاف(٣) .

وعند جبل أحد وضع النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم خطة محكمة ليضمن النصر المؤزر ثم قام صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم فخطب الناس قائلاً: (أيها الناس أوصيكم بما أوصاني الله في كتابه من العمل بطاعته والتناهي عن محارمه، ثمّ إنكم اليوم بمنزل أجر وذخر لمن ذكر الذي عليه، ثم وطّن نفسه له على الصبر واليقين والجد والنشاط فإنّ جهاد العدو شديد كريه، قليل من يصبر عليه، إلاّ من عزم الله رشده، فإن الله مع من أطاعه وإن الشيطان مع من عصاه، فافتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد والتمسوا بذلك ما وعدكم الله، وعليكم بالذي أمركم به، فإنّي حريص على رشدكم فإن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمرِ العجز والضعف مما لا يحب الله، ولا يعطي عليه النصر ولا الظفر) (٤) .

واصطف المشركون للقتال الذي سرعان ما نشب ولم يمض زمن طويل حتى ولّت قوى الشرك الأدبار، وكادت نساؤهم أن تقع بأيدى المسلمين سبايا، وبدا انتصار المسلمين واضحاً في ساحة المعركة حتى وسوس الشيطان في نفوس بعض الرماة الذين وضعهم رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم فوق الجبل وأمرهم بعدم ترك مكانهم مهما كانت نتيجة المعركة حتّى يتلقّوا أمراً جديداً منه فَعَصَوْا أمر رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم وتركوا مواقعهم سعياً وراء الغنائم فكرّت قوى الشرك ثانية بقيادة خالد بن الوليد من موقع الثغرة التي نهى رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم عن تركها.

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ٢ / ٢٣، المغازي: ١ / ٢١٤.

(٢) الطبقات لابن سعد: ٢ / ٣٩.

(٣) الطبري: ٣ / ١٠٧.

(٤) المغازي: ١ / ٢٢١.


فذهل المسلمون لذلك وتفرّقت جموعهم وعادت فلول قريش المنهزمة إلى الحرب وقتل عدد كبير من المسلمين وأشاع المشركون نبأ مقتل رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم وكادت كتائب الشرك أن تصل إلى النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم لولا استبسال علي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وسهل بن حنيف وقلة قليلة ثبتت في ساحة المعركة إذ فرّت البقية الباقية من المسلمين بما فيهم كبار الصحابة(١) ، حتى أن بعضهم بدرت منه فكرة التبرّي من الإسلام فقال: ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان(٢) .

واستشهد حمزة بن عبد المطلب عمّ النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم وتعرض رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم للإصابة فكسرت رباعيته السفلى وشقت شفته وسال الدم على وجهه فجعل يمسحه وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى الله (٣) وقاتل صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم حتى صارت قوسه شظايا. وطعن أُبي بن خلف حين هجم عليه يريد قتله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم ومات أُبي على أثرها واستبسل علي ابن أبي طالب بصورة لا نظير لها وهو يفرق كل من يتقدم نحو رسول الله ويهده بسيفه فنزل جبرئيل على رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم فقال: يا رسول الله هذه المواساة ، فقال صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم : (إنه مني وأنا منه) .

ــــــــــــ

(١) المغازي: ١ / ٢٣٧، السيرة النبوية: ٢ / ٨٣ ، شرح نهج البلاغة: ١٥ / ٢٠.

(٢) بحار الأنوار : ٢٠ / ٢٧. وقد وردت آيات القرآن تبين القتال ونوازع المسلمين في سورة آل عمران: ٣ / ١٢١ ـ ١٨٠.

(٣) تاريخ الطبري : ٣ / ١١٧ ، بحار الأنوار: ٢٠ / ١٠٢.


فقال جبرئيل:وأنا منكما ، فسمعوا صوتاً يقول:(لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي) (١) .

وانسحب الرسول صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم والبقية الباقية معه من المسلمين إلى الجبل وهدأت المعركة وجاء أبو سفيان يستهزئ ويسخر بالمسلمين قائلاً: اعل هبل. وأمر رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم أن يرد على الكفر مظهراً بذلك عدم انكسار العقيدة رغم الانكسار في ساحة المعركة فقال قولوا: (الله أعلى وأجل).

وأمر النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم بالردّ ثانية على شعار أبي سفيان الكافر حين قال: نحن لنا العزّى ولا عزّى لكم فقال صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم :قولوا (الله مولانا ولا مولى لكم) (٢) .

ورجع المشركون إلى مكّة وقام النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم والمسلمون بدفن الشهداء فهالهم المنظر الفظيع الذي تركته قريش فقد مثّلت بجثث الشهداء. ولما أبصر النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم حمزة بن عبد المطلب ببطن الوادي وقد أُخرج كبده ومُثّل به بوحشية وحقد; حزن حزناً شديداً وقال:ما وقفت موقفاً قط أغيظ إليّ من هذا .

ولم تكن التضحيات الجسام والخسارة الكبيرة في ساحة المعركة لتثني أهل العقيدة والرسول القائد صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم عن الاستمرار في الدفاع عن حياض الإسلام وكيان الدولة الفتية، ففي اليوم التالي من رجوعهم إلى المدينة أمر النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم باستنفار المسلمين لطلب العدو ومطاردته على أن لا يخرج إلاّ من حضر الغزوة فخرج المسلمون على ما بهم من جُراح إلى منطقة حمراء الأسد وبهذا اتّبع الرسول القائد صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم أسلوباً جديداً لإرعاب العدو، ممّا جعل الخوف يسيطر عليهم فأسرعوا في مسيرهم نحو مكّة (٣) ورجع النبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم والمسلمون إلى المدينة وقد استردوا كثيراً من معنوياتهم.

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري: ٣ / ١١٦، مجمع الزوائد: ٦ / ١١٤، بحار الأنوار: ٢٠ / ٧١.

(٢) السيرة النبوية: ٢ / ٩٤.

(٣) السيرة النبوية: ٢ / ١٠٢، الطبقات الكبرى: ٢ / ٤٩.