استثمر الإمام عليه السلام الظروف المناسبة فاتخذ ما يناسبها من مواقف، وقد عاش عليه السلام الانفراج الحقيقي بالانطلاق بحرية في نشر الفكر السياسي والعقيدة السياسية لأهل البيت عليهم السلام لأن ظروف الاقتتال بين الأمين والمأمون وما أفرزته من اضطراب وخلل في الجبهة الداخلية وانقسام البيت العباسي، حالت دون ملاحقته عليه السلام ومطاردته أو إيقاف تحركه، وقام عليه السلام بتوسيع قاعدته الشعبية في كل مصر من الأمصار الإسلامية.

وكان عليه السلام كآبائه وأجداده يشرف على جميع خطوط التحرك بما في ذلك خط المواجهة، وهو محاط بسرية وكتمان شديدين، وقد اسند قيادته المباشرة إلى إخوانه وأبناء عمومته لكي لا يكون في موقع المواجهة العلنية مع الحكم القائم، لأنّ القيادة المباشرة تؤدّي إلى قتله في معركة من المعارك أو إلى قتله على أيدي أعوان الحاكم، قبل أن يهيّء الأجواء لإمامة من يأتي بعده.

ومن معطيات القيادة غير المباشرة للمواجهة، أن جميع الأخطاء والممارسات التي ترتكب أثناء الثورة من قبل الثوار لا تحسب على

____________________

(1) مروج الذهب: 3 / 345.


الإمام عليه السلام وإنما على القائد المباشر المشرف على الخط العسكري.

وكان الإمام عليه السلام يحيط تحركه بسرية تامة ففي سنة (199 هـ) قبل انطلاق الثورة على المأمون، اجتمع أنصار محمد بن سليمان العلوي بالمدينة وطلبوا منه أن يبعث إلى الإمام الرضا عليه السلام ويدعوه للقيام معه، فأرسل إليه أحد المقترحين فأجابه الإمام عليه السلام : (إذا مضى عشرون يوماً أتيتك)، فمكثوا أياماً فلما كان يوم ثمانية عشر قامت القوات العباسية بمحاربتهم والقضاء على ثورتهم في مهدها(1) .

والظروف السياسية قد تعطي انطباعاً لدى المسلمين من عدم علاقة الإمام بالثوار، وقد يكون الإمام عليه السلام قد أعطى صلاحيات مطلقة لقادة الخط العسكري دون الرجوع إليه باستمرار وإنما متابعة الأحداث والمواقف عن بعد، فحينما أراد محمد بن الإمام جعفر الصادق عليه السلام الثورة في يوم معيّن أرسل إليه الإمام عليه السلام : (لا تخرج غداً فإنك إن خرجت هزمت وقتل أصحابك)(2) .

وبعد سنتين من سيطرة المأمون على زمام الحكم، وبالتحديد في سنة (200 هـ) كتب إلى الإمام الرضا عليه السلام يدعوه للقدوم إلى خراسان، فاعتل عليه السلام بعلل كثيرة، واستمر المأمون يكاتبه ويسأله حتى علم عليه السلام أنّه لا يكف عنه، فاستجاب له، وأمر الموكل بالإمام عليه السلام أن لا يسير به عن طريق الكوفة وقم، فسار به عن طريق البصرة والأهواز وفارس حتى وصل إلى مرو، وهنالك عرض عليه المأمون أن يتقلّد الخلافة والإمرة، فأبى عليه السلام ذلك، وجرت في هذه القضية مخاطبات كثيرة دامت نحواً من شهرين، وكان الإمام عليه السلام يأبى أن يقبل ما يعرض عليه، فلما كثر الكلام والخطاب في هذه

____________________

(1) عيون أخبار الرضا: 2 / 208.

(2) أصول الكافي: 1/491، مناقب آل أبي طالب: 4 / 368، وعن الكافي في بحار الأنوار: 49/57.


القضية، قال المأمون: فولاية العهد، فأجابه الإمام عليه السلام بعد الإلحاح والتلويح بالقتل إلى ذلك. وشرط عليه السلام بعض الشروط وقال عليه السلام : (إني ادخل في ولاية العهد على أن لا آمر ولا أنهى ولا أقضي ولا أغيّر شيئاً ممّا هو قائم وتعفيني من ذلك كله)(1) . فأجابه المأمون إلى ذلك، فتمّت ولاية العهد في الخامس من رمضان سنة (201 هـ)(2) .