استلم المأمون زمام الحكم بعد حرب دامية استمرت خمس سنين قتل فيها آلاف القادة والجنود، وحدث تفتت في التحالف العباسي وانقسم إلى قسمين، مؤيدين ومعارضين لحكم المأمون الذي قد حدث فيه انفراج سياسي للإمام الرضا عليه السلام ولأهل بيته بعد أربع سنين، فكان الإمام عليه السلام يتحدث بحرية تامة ويتحرك في دائرة أوسع من قبل وهي دائرة البلاط الحاكم لاتصاله بالوزراء والقادة مباشرة.

والمأمون كوارث لأبيه وأجداده لم يستطع أن يخرج عن النهج السياسي السابق إلاّ في حدود ضيّقة، وكان كسابقيه يؤطّر حكمه بإطار شرعي مقدس وهذا يظهر من الكتب والمخاطبات التي وجهت إليه، ومنها ما كتبه إليه طاهر بن الحسين قائد الجيش الذي قتل أخاه الأمين حيث جاء فيه:

قد قتل الله المخلوع، وأسلمه بغدره ونكثه، وأحصد لأمير المؤمنين أمره، وأنجز له ما كان ينتظره من سابق وعده، والحمد لله الراجع إلى أمير المؤمنين حقّه، الكائد له فيمن خان عهده، ونقض عقده، حتى ردّ به الألفة بعد


فرقتها، وجمع له الأُمة بعد شتاتها، فأحيا به أعلام الدين بعد دثور سرائرها(1) .

وعلى الرغم من إضفاء الشرعية على حكمه ومساندة بعض الفقهاء والقضاة له، إلا أن كثيراً من المسلمين كانوا يرونه مغتصباً للخلافة، ونتيجة للظلم المتراكم على طول عهود الحكّام العباسيين، وانحرافهم عن النهج الإسلامي، تفاعلت روح الثورة والتمرد في نفوس المسلمين، من قبل الثوار ومن قبل الموالين لأخيه الأمين.

ففي أول سنة من حكمه وهي سنة (198 هـ) أظهر نصر بن شيث العقيلي الخلاف في حلب وتغلّب على ما جاورها من البلدان، ولم ينته خلافه إلا في سنة (199 هـ) بعد القضاء عليه(2) .

وفي السنة نفسها حدثت فتنة في الموصل بين اليمانية والنزارية قتل فيها من النزارية نحو ستة آلاف.

وفي سنة (199 هـ) انفجرت المعارك بين بني ثعلبة وبني أسامة(3) .

وكانت سنة (199 هـ) فاتحة لثورة عظيمة قادها العلويون، حيث خرج أبو السرايا السري بن منصور الشيباني بالعراق ومعه محمد بن إبراهيم بن إسماعيل الحسني، وضرب أبو السرايا الدراهم بالكوفة وسيّر جيوشه إلى البصرة وواسط ونواحيها.

وتوزعت الثورة على عدة جبهات:

جبهة البصرة بقيادة العباس بن محمد بن عيسى الجعفري.

وجبهة مكة بقيادة الحسين بن الحسن الأفطس.

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي: 2 / 442.

(2) الكامل في التاريخ: أحداث سنة (198 هـ).

(3) تاريخ الموصل: 332 - 336.


وجبهة اليمن بقيادة إبراهيم بن موسى بن جعفر عليه السلام .

وجبهة فارس بقيادة إسماعيل بن موسى بن جعفر عليه السلام .

وجبهة الأهواز بقيادة زيد بن موسى بن جعفر عليه السلام .

وجبهة المدائن بقيادة محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن عليه السلام .

واستمرت هذه الثورة أكثر من سنة إلى أن قضي عليها(1) .

وفي سنة ( 200 هـ) خرج محمد بن الإمام جعفر الصادق عليه السلام ولكنّه استسلم وأرسل إلى المأمون(2) .

وكان لثورات العلويين أثر كبير في تخلخل الأوضاع الداخلية وإرباك المواقف العسكرية والسياسية.

وفي سنة (201 هـ) أصاب أهل بغداد بلاء عظيم حتى كادت تتداعى بالخراب، وجلا كثير من ساكنيها بسبب النهب والسبي والغلاء وخراب الدور(3) .

وعلى الرغم من إعلان المأمون العفو عن قادة الثورة من العلويين إلاّ أن ذلك لا يعني أنه كان متجنباً للإرهاب، بل كان كسابقه يستخدم الإرهاب لإخماد أصوات المعارضين أو من يفكر بإزالة الحكم العباسي، حتى إنه أقدم على قتل هرثمة بن أعين على الرغم من إخلاصه له بدسيسة الحسن بن سهل المنافس له(4) .

ولم يسمح للمعارضة بإبداء وجهات نظرها أن كانت مخالفة لمواقفه، فقد أقدم على نفي أحد الشعراء إلى السند لأنه أنشد قصيدة يذمّ بها قاضياً

____________________

(1) الكامل في التاريخ: 6 / أحداث سنة (199 - 200 هـ).

(2) عيون أخبار الرضا: 2 / 207.

(3) العبر في خبر من غبر: 1 / 263.

(4) تاريخ ابن خلدون: 5 / 521.


منحرفاً له علاقة مع المأمون(1) .

وفي مقابل الاضطراب في الوضع الداخلي كانت هنالك تحدّيات خطيرة تواجه الحكومة العباسية، فالدول الكافرة والمشركة تتحيّن الفرص للقضاء على الحكومة وعلى الوجود الإسلامي، وهي تعدّ العدّة لوقتها المناسب، ولهذا أعلن المأمون العفو العام عن قادة الثورات.