بنزول الأمر الإلهي بالقتال انتقلت الرسالة الإسلامية إلى مرحلة جديدة من الصراع مع قوى الشرك والضلالة، وتحركت في نفوس المهاجرين الرغبة الجادة لاسترداد حقوقهم المسلوبة من قبل والتي استلبتها قريش منهم لا لشيء إلاّ لأنهم آمنوا بالله وحده.

ورصد النبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم قافلة قريش التي فاتته في طريق ذهابها إلى الشام في غزوة ذات العشيرة وخرج في عدّة خفيفة وعدد قليل يرتجي ملاقاة قافلة ضمّت أسهماً تجارية ضخمة لأغلب المكيين. ولم تكن حركة النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم سرّية فقد بلغ خبرها إلى مكة وإلى أبي سفيان قائد القافلة فتحوّل في مسيره إلى اتجاه آخر حيث لا يدركه المسلمون... وخرجت قريش فزعة تطلب مالها تلهبها مشاعر الحقد والحسد للمسلمين، على أن عدداً من كبارها نظر إلى الأمر بتدبّر ورويّة وآثر عدم الخروج لملاقاة المسلمين وخصوصاً بعد أن ورد خبر نجاة أبي سفيان بالقافلة التجاريّة.

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ١ / ٥٩٨، المغازي: ١ / ١١ ـ ١٢.


خرجت قريش بعدد يناهز الألف في عدّة ثقيلة يدفعها تجبّرها، والاغترار بمنزلتها بين العرب ومع جموع أخرى هبّت لنصرتها مصرّةً على لقاء المسلمين أو لتثبت أنها لا تخذل كي لا يتعرض لها المسلمون ثانية، فقريش ما ذلّت مذ عزّت، كما أعرب عن ذلك بعض أصحاب الرسول صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم حين أراد مواجهة قريش لأوّل مرة(١) .

نزلت قريش وصفّت صفوفها للقتال على مقربة من (ماء بدر) حيث سبقهم المسلمون في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً وهيّأ الله لرسوله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم وللمسلمين مقدمات النصر وأسبابه فسهّل لهم الوصول إلى موقع القتال وألقى عليهم الأمن والاطمئنان ووعدهم بالنصر على أعدائهم وإظهار دين الحق(٢) .

وبالرغم من أن المسلمين لم يتوقعوا خروج قريش لملاقاتهم ولكن بعد أن فاتتهم القافلة وتحول الهدف إلى القتال أراد النبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم أن يختبر نوايا المهاجرين والأنصار فوقف وقال:(أشيروا عليّ أيها الناس) .

فقام بعض المهاجرين وتكلّم بكلام يدل على الخوف والجبن عن مواجهة العدو ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله إمضِ لأمر الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها:( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) ، ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنا معكما مقاتلون والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغِماد(٣) لسرنا معك.

فقال له رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم خيراً. ثم كرر رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم قوله: أشيروا عليّ أيها الناس ، يريد بذلك أن يسمع رأي الأنصار إذ كانوا قد بايعوه على الدفاع والذبّ عنه بالنفس والنفيس في العقبة قبل الهجرة.

فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أجيب عن الأنصار، كأنك يارسول الله تريدنا؟

ــــــــــــ

(١) راجع المغازي للواقدي: ١ / ٤٨، السيرة الحلبية: ٢ / ١٦٠، وبحار الأنوار: ١٩ / ٢١٧.

(٢) الانفال (٨): ٧ ـ ١٦.

(٣) برك الغماد : موضع وراء مكة مما يلي البحر.


قال صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم : أجل. قال: إنّا قد آمنا بك وصدقّناك وشهدنا أن كل ما جئت به حق. وأعطيناك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة، فامض يانبي الله، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت هذا البحر فخضته لخضناه معك مابقي منا رجل، وما نكره أن يلقانا عدونا غداً; إنا لصُبّر عند الحرب، صِدق عند اللقاء، لعلّ الله يريك منّا ما تقرّ به عينك.

عندها قال رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم :(سيروا على بركة الله فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم) (١) .

وفي كل موقف كان رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم يدعو ويسأل الله النصر بعد أن تهيّأ المسلمون للحرب وقاموا بالإعدادات اللازمة بدءاً باختيار الموقع المناسب وإعداد الماء واتّخاذ التحوّطات لملاقاة العدو، والنبي القائد صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم كان دائماً هو الطاقة المتدفقة التي تبعث في نفوسهم الصبر والجلد، والاطمئنان كما كان يثير الحماس فيهم ويخبرهم بالمدد الإلهي(٢) .

واحتفّ المسلمون حول النبي وهم يظهرون أروع صور الاستعداد للتضحية من أجل العقيدة ويفكّرون في خطة بديلة لودارت الحرب على غير ما يحبون فأعدّوا عريشاً كمقرّ لقيادة النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم لِيشرف من خلاله على المعركة. وخرجت سرية الاستطلاع لمعرفة أحوال قريش وعادوا بالأخبار الّلازمة للنبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم فقدّر عددهم ما بين (٩٥٠ ـ ١٠٠٠) مقاتل(٣) .

وقف رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم يصفّ المسلمين صفوفاً وأعطى رايته الكبرى لعلي ابن أبي طالب عليه السلام وأرسل إلى قريش طالباً منها أن ترجع، فهو يكره قتالها،

ــــــــــــ

(١) المغازي: ١ / ٤٨ ـ ٤٩.

(٢) الأنفال (٨): ٦٥.

(٣) راجع المغازي: ١ / ٥٠.


فدبّ الخلاف بين صفوف المشركين بين راغب في السلم ومصرّ على العدوان(١) .

وأمر الرسول صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم أن لا يبدأ المسلمون القتال، ووقف يدعو الله قائلاً:(اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد اليوم) .

وكما هو المعتاد في كل الحروب القديمة برز من المشركين عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد يطلبون نظراء لهم من قريش ليبارزوهم. فقال النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم لعبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب:(يا بني هاشم قوموا فقاتلوا بحقكم الذي بعث به نبيكم إذ جاؤوا بباطلهم ليطفئوا نور الله) (٢) .

فقُتل من برز من قريش والتحم الجيشان ورسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم يبعث الحماس في نفوس المسلمين. ثم أخذ النبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم كفاً من الحصى ورمى بها على قريش وقال: شاهت الوجوه، فلم يبق منهم أحد إلاّ اشتغل بفرك عينيه (٣) فكانت هزيمة قريش ووقف رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم على قليب بدر بعد طرح جثث المشركين فيه، وناداهم بأسمائهم وقال: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً . فقال المسلمون: يا رسول الله أتنادي قوماً قد ماتوا؟ فقال صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم : إنهم ليسمعون كما تسمعون ولكن منعوا من الجواب (٤) .

نتائج المعركة :

خلّفت معركة بدر نتائج عظيمة فقد فرّ المشركون نحو مكة والخيبة والذل يحيطان بهم من كل جانب تاركين خلفهم سبعين قتيلاً وسبعين أسيراً وغنائم كثيرة... وبدت بين صفوف المسلمين المنتصرين بوادر اختلاف حول كيفية

ــــــــــــ

(١) المغازي: ١ / ٦١، بحار الأنوار: ١٩ / ٢٥٢.

(٢) المغازي: ١ / ٦٨.

(٣) إعلام الورى: ١ / ١٦٩، السيرة النبوية: ١ / ٦٢٨.

(٤) إعلام الورى: ١ / ١٧١، السيرة النبوية: ١ / ٦٣٨.


تقسيم الغنائم فأمر النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم بجمعها حتى يرى فيها رأيه، ونزل الأمر الإلهي في سورة الأنفال بتقسيم الغنائم وتشريع أحكام الخمس، فأعطى رسول الله لكل فرد مقاتل حصته على قدم المساواة مع غيره(١) .

وبشأن الأسرى أعلن رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم أنّ من علّم من الأسرى عشرة من صبيان المسلمين القراءة والكتابة فذلك فداؤه مظهراً بذلك سماحة العقيدة الإسلامية وحثّها على التعلم وبناء الإنسان المتحضّر. وأما الباقي من الأسرى فجعل فداء كل واحد منهم أربعة آلاف درهم، وشمل هذا القرار أبا العاص زوج زينب بنت رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم من دون تمييز له عن غيره من المشركين.

وحين أرسلت زينب قلادتها لفداء زوجها بكى رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم لرؤية القلادة متذكراً زوجته خديجة فالتفت صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم إلى المسلمين قائلاً: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردّوا عليها مالها فافعلوا (٢) . وما أيسر هذا الطلب لنبي الرحمة من المسلمين وأسرع أبو العاص إلى مكة ليرسل زينب إلى المدينة كما وعد رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم وسرت بشائر النصر والفتح المبين نحو المدينة فأوجفت قلوب اليهود والمنافقين خيفة ورعباً وسَعَوا لتكذيب الخبر في حين انتشى المسلمون فرحاً وسروراً وخرجوا لاستقبال النبي القائد المنتصر.

وحلّت الكارثة بأهل مكة وخيّم الحزن على أجوائها وصعق المشركون من هول الصدمة وعمّت الأحزان بيوتات مكة وأطرافها.

وتضمّنت آيات الذكر الحكيم نصوصاً صريحة عن هذه المعركة المصيرية وهي تذكر تفاصيل الأحداث وتظهر الإمداد الإلهي للأُمة المسلمة المخلصة لربها

ــــــــــــ

(١) المغازي: ١ / ١٠٤، السيرة النبوية: ١ / ٦٤٢.

(٢) السيرة النبوية: ١ / ٦٥٢، البحار: ١٩ / ٣٤٨.


في سبيل نشر رسالته(١) .

وقد استبسل علي بن أبي طالب عليه السلام للدفاع في هذه الغزوة الكبرى حين قتل الوليد بن عتبة وأعان عمّه حمزة وعبيدة بن الحارث على قتل شيبة وعتبة منازلاً لهما. وقد عدّ الشيخ المفيد ستة وثلاثين نفراً ممن قتلهم علي عليه السلام يوم بدر سوى من اشترك في قتله(٢) ، وقال ابن اسحاق : اكثر قتلى المشركين يوم بدر كان لعليّ(٣) .

وألجأت هذه الهزيمة قريشاً إلى تحويل مسير تجارتها من الشام إلى العراق بعد أن أصبح للمسلمين كيان قوي، له آثاره على تركيبة مجتمع الجزيرة حيث بدت تظهر بالتدريج وبدأت قريش تفقد هيبتها بين القبائل في الوقت الذي أخذت تشتد أواصر المسلمين فيما بينهم وبين الرسول القائد صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم .