لقد تداعا النظام الأموي في هذه المرحلة التاريخية من حياته بعد أن فقد في نظر الأمة كلّ مبرّراته الحضارية ، عقائدية كانت أو سياسية ، ولم يبقَ في قبضته سوى منطق السيف الذي هو آخر مواطن القوّة التي كان يدير بها شؤون البلاد .

وحتى هذا المنطق لم يدم طويلاً أمام إرادة الأمة رغم صرامة آخر ملوك الأمويين (مروان) المعروف في حسمه .

لقد استحكمت قناعة الأمة وآمنت بضرورة التخلّص من الطغيان الأموي ، ولم يبق بعد شيءٌ بيد وعّاظ السلاطين ليرتشوا به ويدافعوا عن وجه الاستبداد الأموي الكالح فيوظّفوا القرآن والحديث لصالح مملكته ولزوم طاعة الأمة لحكّامها ؛ حيث تراكمت في ذهن الأمة وضميرها تلك المظالم التي ارتُكبت بحق ذريّة رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم بدءاً بسمّ معاوية للإمام الحسن عليه السلام وسبّه الإمام علي أخي رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم وابن عمّه وزوج ابنته وجعل السبّ سُنّةً ، ثم قتل الحسين بن علي ريحانة الرسول صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم وأهل بيته وخيرة أصحابه


بأمر يزيد وعمّاله ، وأخذه البيعة من أهل المدينة في واقعة الحَرّة الأليمة على أنّهم عبيد له بعد أن أباحها لجيشه ثلاثة أيام .

وقول عبد الملك بن مروان :( مَن أوصاني بتقوى الله ضُربت عنقه ) (١) وقتل الطاغية هشام لزيد بن علي عليه السلام وصلبه وحرق جثمانه الشريف .

وفساد الولاة الأمويين بالإضافة إلى جبايتهم الضرائب الظالمة ، وشقّ صف وحدة الأمة الإسلامية وتمزيقها إلى طوائف بإشاعتهم للروح القبلية حيث فرّقوا بالعطاء واستعبدوا الشعوب غير العربية .

وهكذا ظهرت إلى سطح الساحة الفكرية والفقهية آراء لا ترى أية شرعية للنظام الأموي وعبّرت عن ذلك في وسط الأمة وأصبح مدح العلويين أمراً تتناقله الناس رغم سلبية موقف السلطة منهم ، بعد أن كان الخوف يمنعهم من التعبير عن رأيهم .

وهكذا استعدت الأمة بفعل تراكم الظلم الأموي ؛ لأنّ تتقبّل أي بديل من شأنه أن ينقذها من الكابوس الأموي ، لعلّها تنعم بشيء من العدل والمساواة .

وهذا الجو قد شجّع على ظهور اتجاهات وادّعاءات سياسية تحرض الأمة وتدعوها إلى الانضمام تحت رايتها تحقيقاً لأطماعها في الخلافة ، كما تطلّعت الأمة للمنقذ باحثة عن أخباره بشغف وأخذت فكرة المهدي المنتظر تشقّ طريقها في أوساط الأمة المظلومة .

ومن جانب آخر اتّسع خط الإمام عليه السلام وامتدّ وكثرت أنصاره واستلهمت الأمة ثقافته حيث إنّه قد أثّر في عقلها وقراراتها ، ليس على

ـــــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢١٩ .


المستوى الخاص الذي يحضى برعاية الإمام فحسب ، أو في دوائر محدودة ، بل أصبح له وجود في مختلف البلاد الإسلامية وتألّق الإمام الصادق عليه السلام ودخل صيته في كل بيت حتى أصبح مرجعاً روحياً تهوى إليه القلوب من كل مكان وتلوذ به لحل مشكلاتها الفكرية والعقائدية والسياسية .

ولم يكن هذا الامتداد منحصراً بين عموم الناس وسوادها بل كان الإمام عليه السلام مرجعاً لعلمائها وموئلاً لساستها ، فهذا سفيان الثوري يقول : دخلت على الإمام الصادق عليه السلام فقلت له : أوصني بوصيّة أحفظها من بعدك قال :( وتحفظ يا سفيان ؟ قلت : أجل يا بن رسول الله قال :يا سفيان لا مروّة لكذوب ولا راحة لحسود ولا إخاء لملول ولا خلّة لمختال ولا سؤدد لسيّء الخلق ) (١) .

ودخل عليه مرة أخرى يطلب منه المزيد من التعاليم فقال عليه السلام :( يا سفيان الوقوف عند كل شبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، وترك حديث لم تروه أفضل من روايتك حديثاً لم تحصه ، إنّ على كل حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالفه فدعوه ) (٢) وكانت لسفيان الثوري لقاءات أخرى مع الإمام عليه السلام ، بل كانت علاقته به علاقة التلميذ بأستاذه .

وكان من جملة العلماء الذين يدخلون على الإمام للاستفادة منه : حفص بن غياث وهو أحد أعلام عصره وأحد المحدثين في وقته فكان يطلب من الإمام عليه السلام أن يرشده ويوصيه فقال له الإمام عليه السلام :( إن قدرتم أن لا تعرفوا فافعلوا ، وما عليك أن لم يثن الناس عليك ـ إلى أن قال ـ :إن قدرت أن لا تخرج من بيتك

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٧٨/٢٦١ .

(٢) أصول الكافي : ١/٦٩ ح١ وتاريخ اليعقوبي : ٢/٣٨١ وعن الكافي في بحار الأنوار : ٢/١٦٥ والإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ٢/٣٢٢ .


فافعل فإنّ عليك في خروجك أن لا تغتاب ، ولا تكذب ولا تحسد ، ولا ترائي ، ولا تداهن ) .

وكان أبو حنيفة يغتنم الفرص ليحضر عند الإمام ويستمع منه ، وكان يقول بحق الإمام عليه السلام : ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد عليه السلام .

وكان مالك بن أنس ممّن يحضر عند الإمام عليه السلام ليتأدّب بآدابه ويهتدي بهديه فكان يقول : ما رأت عين ولا سمعت أُذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادة وورعاً وقال : اختلفت إلى جعفر بن محمد زماناً فما كنت أراه إلاّ على إحدى ثلاث خصال إمّا مصلّياً وإمّا صائماً وإمّا يقرأ القرآن ، وما رأيته قط يحدّث عن رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم إلاّ على طهارة ، ولا يتكلّم بما لا يعنيه ، وكان من العلماء العبّاد والزهاد الذين يخشون الله(١) .

وشهد المنصور بحقّه وهو ألدّ أعدائه قائلاً : إنّ جعفر بن محمد كان ممّن قال الله فيه( ثم أورَثْنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) وكان ممّن اصطفى الله وكان من السابقين بالخيرات(٢) .

ولم يكن الإمام مرجعاً للعلماء والفقهاء والمحدّثين وقائداً للنهضة الفكرية والعلمية في زمانه فحسب ، بل كان مرجعاً للساسة والثوّار حيث كان الزعيم الحقيقي للخط العلوي الثائر ، حيث نجد زيداً الشهيد بن علي بن الحسين عليهما‌ السلام يرجع إليه في قضية الثورة ، كما كان زيد يقول بحق الإمام عليه السلام في كل زمان رجل منّا أهل البيت يحتج الله به على خلقه ، وحجّة زماننا ابن أخي جعفر لا يضل مَن تبعه ولا يهتدي مَن خالفه(٣) .

ـــــــــــــــــ

(١) مالك بن أنس للخولي : ٩٤ ، وكتاب مالك ، محمد أبو زهرة : ٢٨ .

(٢) تاريخ اليعقوبي : ٢/٣٨٣ وقد أخذ هذا عن الصادقعليه‌السلام نفسه ، كما عنه في مناقب آل أبي طالب : ٤/١٤٢ .

(٣) المناقب لابن شهرآشوب : ٤/٢٩٩ .


ولم يكن الإمام جزءاً منفصلاً عن الثورة فقد كان يدعم الثورة بالمال والدعاء والتحريض والتوجيه كما مرّ في البحوث السابقة(١) ، أمّا العلويون من آل الحسن أمثال عبد الله بن الحسن وعمر الأشرف بن الإمام زين العابدين فهم كانوا يرجعون إليه ويستشيرونه في مسائل حياتهم ، ولم يتجاوزه أحد في الأعمال المسلّحة والنشاطات الثورية .

من هنا فإنّ القناعة السائدة آنذاك في أوساط الأمة هي أنّ البديل للحكم الأموي هو الخط الذي يتزعّمه الإمام عليه السلام وهذه الحقيقة لم يمكن تغافلها ، كما سوف يتضح أنّ أهم قادة الحركة العباسية ورؤساؤها والمدبّرون لها أو قادتها العسكريون كانوا يعتقدون في قرارة أنفسهم بأنّ الإمام عليه السلام هو الأولى من غيره ، وصاحب القوّة والقدرة والحنكة في إدارة الثورة وقيادتها ; وذلك لطاقاته الإلهية وثقله الشعبي ، ولهذا فاتحه بالمبايعة كخليفة كلاًّ من : أبي سلمة الخلاّل وأبي مسلم الخراساني ، وقد ألحّ عليه بعض أصحابه أيضاً مؤكّداً ضرورة إعلان الثورة .

والجدير بالانتباه أنّ الإمام عليه السلام لم يتبوّأ هذا الموقع المقدّس من القلوب بسبب المعادلات السياسية الآنية ، فإنّ الأحداث والظروف المختلفة هي التي كانت قد خلقت هذا الجوّ وأكّدت بأن يكون الإمام عليه السلام لا غيره في هذا الموقع ويصبح هو البديل اللائق سياسيّاً وفكريّاً والخليفة الشرعي للمسلمين بدل الحكم الأموي الظالم .

وإنّ العمل الدؤوب والمنهج الإصلاحي الذي خطّه الإمام عليه السلام ومَن سبقه من أئمة أهل البيت عليهم السلام ، وبناء الأجيال الطليعية أدّى إلى ارتفاع هذا

ـــــــــــــــــ

(١) راجع ص : ٧٩ ـ ٨٠ حول موقف الإمام الصادق من ثورة زيد .


الوعي عند الأمة وخلق منعطفاً تاريخياً في حياة الأمة ممّا أدّى إلى أن تنعم الأمة بالثروة الفكرية التي خلفتها تلك الفترة الذهبية لنا .

وكان الإمام عليه السلام في هذا الظرف الحسّاس يراقب التحركات السلبية التي تحاول العبث بمسار الأمة والأخذ بها إلى مطبّات انحرافية جديدة ، من هنا أصدر جملة من التوجيهات لأصحابه والتزم الحياد إزاء العروض السياسية الكاذبة التي تقدّم بها بعض الثوّار ; وذلك لمعرفته بالدوافع والمطامع التي كانت تحرّكهم .

وكان من تلك الاتجاهات التي تحرّكت لإقناع الناس بضرورة الثورة على الأمويين بهدف الاستحواذ على الخلافة وتفويت الفرصة على منافسيهم الاتجاه العبّاسي .