ويقع البحث في هذا الحقل ضمن عدّة محاور :

١ ـ المحور العقائدي السياسي :

وفي هذا المحور ركّز الإمام على عدّة نشاطات :

النشاط الأوّل : التثقيف على عدم شرعيّة الحكومات الجائرة ورتّب على ذلك تحريم الرجوع إليها لحل النزاع والخصومات كما ورد عنه :( إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه ) (١) .

وقال أيضاً :( أيّما مؤمن قدّم مؤمناً في خصومة إلى قاضٍ أو سلطان جائر فقضى عليه بغير حكم الله فقد شركه في الإثم ) (٢) .

وعن أبي بصير عنه عليه السلام قال :( أيّما رجل كان بينه وبين أخ له ممارات في حق فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه فأبى إلاّ أن يرافعه إلى هؤلاء ، كان بمنزلة الذين قال الله عزّ وجل : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ

ـــــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٤ .

(٢) المصدر السابق : ١٨ / ٢ .


قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ) ) (١) .

وعن عمر بن حنظلة قال : سألت أبا عبد الله عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاء أيحل ذلك ؟ فقال :مَن تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنّما تحاكم إلى طاغوت وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً وإن كان حقه ثابتاً ؛ لأنّه أخذه بحكم الطاغوت ، وقد أمر الله أن يكفر به قال الله تعالى : ( يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ) (٢) .

وفي توجيه آخر حرّم أيضاً التعاون مع الأنظمة الجائرة فمن توصياته بهذا الخصوص ، قوله عليه السلام :( إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يحكم الله بين العباد ) (٣) .

وقال عليه السلام :لا تُعِنْهم ـ أي حكام الجور ـعلى بناء مسجد (٤) .

وقال عليه السلام لبعض أصحابه :( يا عذافر نُبّئت أنّك تعامل أبا أيوب والربيع فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة ؟ ! ) (٥) .

وعن علي بن حمزة ، قال كان لي صديق من كتّاب بني أمية فقال لي : استأذن لي على أبي عبد الله عليه السلام فاستأذنت له ، فلمّا دخل سلّم وجلس ، ثم قال : جعلت فداك إنّي كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً ، وأغمضت في مطالبه .

فقال أبو عبد الله عليه السلام لو أنّ بني أمية لم يجدوا مَن يكتب لهم ، ويجبي لهم

ـــــــــــــــــ

(١) النساء : ٤ / ٦٠ .

(٢) النساء : ٤/٦٠ ، وسائل الشيعة : ٢٧/١٣ .

(٣) وسائل الشيعة : ١٧/١٧٩ ح ٦ .

(٤) المصدر السابق : ١٧/١٨٠ .

(٥) المصدر السابق : ١٧/١٧٨ .


الفيء (١) ويقاتل عنهم ، ويشهد جماعتهم ، لما سلبونا حقّنا ، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ، ما وجدوا شيئاً إلاّ وقع في أيديهم . فقال الفتى : جعلت فداك فهل لي من مخرج منه ؟

قال :إن قلت لك تفعل ؟ قال : أفعل ، قال :اخرج من جميع ما كسبت في دواوينهم ، فمَن عرفت منهم رددت عليه ماله ، ومَن لم تعرف تصدّقت به (٢) .

النشاط الثاني : مارس فيه التثقيف على الصيغة السياسية السليمة من خلال تبيان موقع الولاية المغصوب واستخدم الخطاب القرآني في هذا المجال الذي حاولت فيه المدارس الفكرية الأخرى تجميد النص بحدود الظاهر فقد علّق عليه السلام على قوله تعالى :( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (٣) .

إنّ الله عزّ وجلّ اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبيّاً ، وأنّ الله اتّخذه نبيّاً قبل أن يتّخذه رسولاً وان الله اتّخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً ، وأنّ الله اتخذه خليلاً قبل أن يتخذه إماماً ، فلمّا جمع له الأشياء قال :( إنّي جاعلك للناس إماماً ) .

قال عليه السلام :( فَمن عِظَمِها ـ أي الإمامة ـفي عين إبراهيم عليه السلام قال : ومن ذرّيتي ؟ قال : لا ينال عهدي الظالمين ، قال : لا يكون السفيه إمام التقي ) (٤) .

كما فسّر عليه السلام قوله تعالى :( صبغة الله ومَن أحسن من الله صبغة ونحن

ـــــــــــــــــ

(١) الفيء : الخراج .

(٢) المناقب لابن شهر اشوب : ٣/٣٦٥ ، بحار الأنوار : ٤٧/١٣٨ ، والكافي : ٥/١٠٦ .

(٣)البقرة : ٢ / ١٢٤ .

(٤) الميزان : ١/٢٧٦ .


له عابدون ) (١) بأنّ الصبغة هي الإسلام(٢) وفي قول آخر عنه عليه السلام بأنّ الصبغة هي صبغ المؤمنين بالولاية ، يعني الولاية لإمام الحق أمير المؤمنين عليه السلام في الميثاق(٣) .

وعلّق العلاّمة الطباطبائي على ذلك بقوله : وهو من باطن الآية(٤) .

كما نجده عليه السلام يتحدث عن الإمام أمير المؤمنين ويذكّر الناس بحديث الغدير ، ذلك الحدث السياسي الخطير في حياه الأمة ، ويذكّرهم به لئلاّ يتعرّض هذا الحدث للنسيان والإلغاء قال في حق علي عليه السلام ( المدعو له بالولاية المثبت له الإمامة يوم غديم خم ، بقول الرسول صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم :ألست أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا : بلى قال :فمَن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه ، وعاد مَن عاداه ، وانصر مَن نصره ، واخذل مَن خذله ، وأعن مَن أعانه (٥) .

وعندما التقى وفد من المعتزلة في مستوى رفيع ضمّ أعلامهم ورؤوسهم فكان من بينهم : عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وحفص بن سالم ، وذلك بعد قتل الوليد واختلاف أهل الشام ، وقد أجمع رأي المعتزلة على محمد بن الحسن للخلافة الإسلامية ، وبعد أن اسندوا أمرهم في الرأي إلى زعيمهم الروحي عمرو بن عبيد ودار حوار طويل بينه وبين الإمام خاطبه الإمام قائلاً :يا عمرو لو أنّ الأمة قلّدتك أمرها فملكته بغير قتال ، ولا مؤنة فقيل لك : ولِّها مَن شئت ، مَن كنت تولّي ؟

ـــــــــــــــــ

(١) البقرة : ٢/١٣٨ .

(٢) تفسير الصافي : ١/١٧٦ .

(٣) تفسير العياشي : ١/٦٢ .

(٤)الميزان : ١/٣١٥ .

(٥) عوالم العلوم والمعارف : ١٥/٣ ـ (٢٧٠ ـ ٢٧١) وراجع أيضاً شواهد التنزيل : ١/١٨٧ والدر المنثور : ٢/٢٩٨ وفتح القدير : ٣/٥٧ وروح المعاني : ٦/١٦٨ .


وبادر عمرو فقال : أجعلها شورى بين المسلمين .

قال :بين كلّهم ؟ قال : نعم قال :بين فقهائهم وخيارهم ؟ قال :نعم قال :قريش وغيرهم ؟ قال : قال له : العرب والعجم ؟

قال عليه السلام :أخبرني يا عمرو أتتولّى أبا بكر وعمر أو تتبرّأ منهما ؟ قال : أتولاّها .

فقال له الإمام عليه السلام :يا عمرو إن كنت رجلاً تتبرّأ منهما فإنّه يجوز لك الخلاف عليهما ، وأنت كنت تتولاّهما فقد خالفتهما فقد عهد عمر إلى أبي بكر فبايعه ، ولم يشاور أحداً ، ثم ردّها أبو بكر عليه ولم يشاور أحداً ، ثم جعلها عمر شورى بين ستة ، فأخرج منها الأنصار غير أولئك الستة من قريش ، ثم أوصى الناس فيهم ـ أي في الستة الذين انتخبهم ـبشيء ما أراك ترضى أنت ولا أصحابك به .

وسأل عمرو الإمام عليه السلام عما صنع عمر قائلاً : ما صنع ؟

قال الإمام عليه السلام :أمر صهيباً أن يصلّي بالناس ثلاثة أيام ، وأن يتشاور أولئك الستّة ليس فيهم أحد سواهم إلاّ ابن عمر ، ويشاورونه ، وليس له من الأمر شيء ، وأوصى مَن كان بحضرته من المهاجرين والأنصار إن مضت ثلاثة أيّام ولم يفرغوا ويبايعوا ، أن تُضرب أعناق الستة جميعاً وإن اجتمع أربعة قبل أن يمضي ثلاثة أيّام وخالف اثنان أن يضرب أعناق الاثنين أفترضون بذا فيما تجعلون من الشورى بين المسلمين ؟ (١) .

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار ٤٧/٢١٣ ـ ٢١٦ ، والاحتجاج ٢/١١٨ ـ ١٢٢ .


٢ ـ المحور الثقافي والفكري :

أ ـ مواجهة التيّارات الإلحادية :

ومن الخطوات التي خطاها الإمام عليه السلام هي مواجهة الأفكار الإلحادية ـ سابقة الذكر ـ حيث ناقشها بعدّة أساليب حتى استفرغ محتواها ووقف أمام تحقيقها لأهدافها .

نختار نماذج من تحرّك الإمام ونشاطه في هذا المجال .

١ ـ جرت بين الإمام وأحد أقطاب حركة الكفر والإلحاد ( أبو شاكر الديصاني ) عدّة مناظرات أفحمه الإمام فيها ، وأبطل مزاعمه الواهية ، وكان من بينها المناظرة التي وجّه فيها أبو شاكر السؤال التالي للإمام عليه السلام : قائلاً : ما الدليل على أنّ لك صانعاً ؟

فأجابه الإمام عليه السلام :( وجدت نفسي لا تخلو من إحدى جهتين : إمّا أن أكون صنعتها أنا أو صنعها غيري فإن كنت صنعتها فلا أخلو من أحد معنيين : إمّا أن أكون صنعتها وكانت موجودة فقد استغنيت بوجودها عن صنعتها ، وإن كانت معدومة فإنّك تعلم أنّ المعدوم لا يحدث شيئاً ، فقد ثبت المعنى الثالث : أنّ لي صانعاً وهو ربّ العالمين ) (١) .

٢ ـ دخل الديصاني على الإمام الصادق عليه السلام فقال له : يا جعفر بن محمد دُلّني على معبودي . وكان إلى جانب الإمام غلام بيده بيضة فأخذها منه ، وقال له :( يا ديصاني هذا حصن مكنون له جلد غليظ وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق ، وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضة ذائبة فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة ، فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٣/٥٠ عن التوحيد للصدوق .


صلاحها ، ولا دخل فيها داخل مفسد فيخبر عن فسادها ، لا يدرى للذكر خُلقت أم للانثى ، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس ، أترى لها مدبّراً ؟ ) .

وأطرق الديصاني مليّاً إلى الأرض ، وأعلن التوبة والبراءة ممّا قاله(١) .

٣ ـ ووفد زنديق آخر على الإمام عليه السلام وهو من الزنادقة البارزين في عصر الإمام الصادق عليه السلام وقد قدّم للإمام عدّة مسائل حسّاسة فأجاب عنها الإمام عليه السلام نذكر بعضاً منها :

١ ـ سأله : كيف يعبد اللهَ الخلقُ ولم يروه ؟

فأجابه عليه السلام :( رأته القلوب بنور الإيمان ، وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان ، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإحكام التأليف ، ثم الرسل وآياتها ، والكتب ومحكماتها ، واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته ) (٢) .

ويتضمّن جواب الإمام عليه السلام بعض الأدلة الوجدانية على وجود الخالق من خلقه للمجرّات في الفضاء والتي لا تعتمد على شيء سوى قدرة الله تعالى .

ثم إنّ العقول الواعية والقلوب المطمئنّة بالإيمان هي التي ترى الله بما تبصره من بدائع مخلوقاته ؛ إذ الأثر يدلّ على المؤثّر والمعلول يدلّ على علّته .

٢ ـ وسأله : من أين أثبت أنبياءَ ورسلاً ؟

فأجاب عليه السلام :( إنّا لمّا أثبتنا أنّ لنا خالقاً ، صانعاً ، متعالياً عنّا ، وعن جميع ما خلق وكان ذلك الصانع حكيماً ، لم يجز أن يشاهده خلقه ، ولا أن يلامسوه ولا أن يباشرهم ويباشروه ، ويحاجّهم ويحاجّوه ، ثبت أنّ له سفراء في خلقه ، وعباد يدلّونهم على مصالحهم

ـــــــــــــــــ

(١) أصول الكافي : ١ / ٨٠ ، والاحتجاج : ٢ / ٧١ ـ ٧٢ .

(٢) الاحتجاج : ٢/٧٧ .


ومنافعهم ، وما به بقاؤهم ، وفي تركه فناؤهم فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، وثبت عند ذلك أنّ له معبّرين هم أنبياء الله وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدّبين بالحكمة مبعوثين عنه ، مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب ، مؤيّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، فلا تخلو الأرض من حجّة يكون معه علمٌ يدلّ على صدق مقال الرسول ووجود عدالته .

وأضاف الإمام الصادق عليه السلام قائلاً :( نحن نزعم أنّ الأرض لا تخلو من حجّة ولا تكون الحجة إلاّ من عقب الأنبياء وما بعث الله نبياً قطّ من غير نسل الأنبياء ؛ وذلك أن الله شرع لبني آدم طريقاً منيراً ، وأخرج من آدم نسلاً طاهراً طيّباً ، أخرج منه الأنبياء والرسل ، هم صفوة الله وخلص الجوهر ، طهروا في الأصلاب ، وحفظوا في الأرحام ، لم يصبهم سفاح الجاهلية ولا شاب أنسابهم ؛ لأنّ الله عزّ وجلّ جعلهم في موضع لا يكون أعلى درجة وشرفاً منه ، فمَن كان خازن علم الله ، وأمين غيبه ، ومستودع سرّه ، وحجّته على خلقه ، وترجمانه ولسانه لا يكون إلاّ بهذه الصفة ، فالحجّة لا تكون إلاّ من نسلهم ، يقوم مقام النبي صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم في الخلق بالعلم الذي عنده وورثه عن الرسول ، إن جحده الناس سكت ، وكان بقاء ما عليه الناس قليلاً ممّا في أيديهم من علم الرسول على اختلاف منهم فيه ، قد أقاموا بينهم الرأي والقياس ، وإنّهم إن أقرّوا به وأطاعوه وأخذوا عنه ظهر العدل ، وذهب الاختلاف والتشاجر ، واستوى الأمر ، وأبان الدين ، وغلب على الشك اليقين ، ولا يكاد أن يقرّ الناس به ، ولا يطيعوا له ، أو يحفظوا له بعد فقد الرسول ، وما مضى رسول ولا نبيّ قط لم تختلف أُمّته من بعده ) .

٣ ـ وسأله : ما يصنع بالحجّة إذا كان بهذهِ الصفة ؟

فأجابه عليه السلام :( يُقتدى به ، ويخرج عنه الشيء بعد الشيء ، مكانه منفعة الخلق ،


وصلاحهم فإن أحدثوا في دين الله شيئاً أعلمهم ، وإن زادوا فيه أخبرهم ، وإن نقصوا منه شيئاً أفادهم ) (١) .

وبهذا المستوى من الحوار وعمقه يستمرّ الإمام عليه السلام في أجوبته العملاقة حتى تصل الأسئلة والأجوبة إلى خمسة وتسعين(٢) ، ونظراً لسعتها اقتصرنا على الثلاث الأول منها .

ب ـ مواجهة تيّار الغلوّ

لقد كان موقف الإمام الصادق عليه السلام من تيّار الغلوّ وحركة الغلاة حازماً وصارماً ، فقال لسدير :( يا سدير سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي من هؤلاء براء ، برئ الله منهم ورسوله ، ما هؤلاء على ديني ودين آبائي ، والله لا يجمعني وإيّاهم يوم إلاّ وهو عليهم ساخط ) (٣) .

وقال ميسرة : ذكرت أبا الخطّاب عند أبي عبد الله عليه السلام وكان متّكئاً فرفع إصبعه إلى السماء ثم قال :( على أبي الخطّاب لعنة الله والملائكة والناس أجمعين فأشهد بالله أنّه كافر فاسق مشرك ، وأنّه يحشر مع فرعون في أشدّ العذاب غدوّاً وعشيّاً ، ثم قال :والله والله إنّي لأنفس على أجساد أصيبت معه النار ) (٤) .

وقال عيسى بن أبي منصور : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول ـ وقد ذكر أبا الخطّاب ـ :( اللّهمّ العن أبا الخطّاب فإنّه خوّفني قائماً وقاعداً وعلى فراشي اللّهمّ

ـــــــــــــــــ

(١) الاحتجاج للطبرسي : ٢/٧٧ ـ ٧٨ .

(٢) الاحتجاج : ٢/٧٧ ـ ١٠٠ عن يونس بن ظبيان وعبد الدين سنان ، ولم يسمّيا الزنديق ولم يرويا توبته !

(٣) أصول الكافي : ١ / ٢٦٩ .

(٤) اختيار معرفة الرجال للكشي : ٢٦٩ ح ٥٢٤ .


أذقه حر الحديد ) (١) .

وكان موقفه عليه السلام صلباً أمام هذه الطائفة الخطيرة على الإسلام ، وما كان ليستريح طرفة عين حتى أحبط مؤامرتها وما ضمّته من الحقد اليهودي ودسائسه التأريخية على الإسلام ، ولو كان قد تراخى وفتر عنها لحظة لكانت تقصم ظهر التشيّع .

ونلمس في الروايتين التاليتين حرقة الإمام وألمه الشديد ومخافته من تأثير هذه الدعوة الضالّة على الأمة وشعارها المزيّف بحبّها لأهل البيت عليهم السلام ، فعن عنبسة بن مصعب قال : قال لي أبو عبد الله عليه السلام : ( أي شيء سمعت من أبي الخطاب ؟ ) قلت : سمعته يقول : إنّك وضعت يدك على صدره وقلت له : عه ولا تنس وأنت تعلم الغيب وأنّك قلت هو عيبة علمنا وموضع سرّنا أمين على أحيائنا وأمواتنا .

فقال الإمام الصادق :( لا والله ما مسّ شيء من جسدي جسده ، وأما قوله إنّي قلت : إنّي أعلم الغيب فو الله الذي لا إله إلاّ هو ما أعلم الغيب (٢) ولا آجرني الله في أمواتي ولا بارك لي في أحبّائي إن كنت قلت له ! وأمّا قوله إنّي قلت : هو عيبة علمنا وموضع سرّنا وأمين على أحيائنا وأمواتنا فلا آجرني الله في أمواتي ولا بارك لي في أحيائي إن كنت قلت له من هذا شيئاً من هذا قط ) (٣) .

وقال الإمام عليه السلام لمرازم :( قل للغالية توبوا إلى الله فإنّكم فسّاق كفّار مشركون ) .

ـــــــــــــــــ

(١) اختيار معرفة الرجل : ٢٩٠ ح ٥٠٩ وعنه في عوالم العلوم والمعارف : ٢٠/٢ ح ١١٥١ .

(٢) والإمامعليه‌السلام هنا في مقام نفي العلم بالغيب الاستقلالي الذي يدّعيه الغلاة ، لا العلم بالغيب الممنوح للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولهم منه سبحانه .

(٣) اختيار معرفة الرجال للكشي : ٢٩٢ ح ٥١٥ وعنه في الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ٢ / ٣٧٥ .


وقال عليه السلام له : (إذا قدمت الكوفة فأت بشار الشعيري وقل له : يقول لك جعفر بن محمد : يا كافر يا فاسق أنا بريء منك قال : مرازم فلمّا دخلت الكوفة قلت له : يقول لك جعفر بن محمد : يا كافر يا فاسق يا مشرك أنا بريء منك قال بشار : وقد ذكرني سيدي ؟! قلت : نعم ذكرك بهذا قال : جزاك الله خير )(١) .

لاحظ الخبث وطول الأناة وعمق التخطيط حيث يذهب هذا الخبيث ليلتقي بالإمام عليه السلام بعد كل الذي سمعه ولمّا دخل بشار الشعيري على الإمام عليه السلام قال له :( اُخرج عني لعنك الله ، والله لا يظلّني وإيّاك سقف أبداً ) فلمّا خرج ، قال عليه السلام :( ويله ما صغر الله أحداً تصغير هذا الفاجر ، إنّه شيطان خرج ليغوي أصحابي وشيعتي فاحذروه ، وليبلّغ الشاهدُ الغائب إني عبد الله وابن أمته ضمّتني الأصلاب والأرحام وإنّي لميّت ومبعوث ثم مسؤول ) (٢) .

ج ـ طرح المنهج الصحيح لفهم الشريعة :

إنّ الإمام الصادق عليه السلام في الوقت الذي كان يواجه هذه التيارات الإلحادية الخطيرة على الأمة كان مشغولاً أيضاً بمواجهة التيّارات التي تتبنّى المناهج الفقهية التي تتنافى مع روح التشريع الإسلامي ، والتي تكمن خطورتها في كونها تعرّض الدين إلى المحق الداخلي والتغيير في محتواه ، من هنا كان الإمام عليه السلام ينهى أصحابه عن العمل بها حتّى قال لأبان :( يا أبان ! إنّ السُنة إذا قيست محق الدين ) (٣) .

وكان للإمام نشاط واسع لإثبات بطلان هذه المناهج وبيان عدم شرعيّتها .

ـــــــــــــــــ

(١) اختيار معرفة الرجال للكشي : ٣٩٨ ح ٧٤٤ وعنه في الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ٢/٣٧٥ .

(٢) المصدر السابق : ٤٠٠ ح ٧٤٦ وعنه في الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ١/٢٣٥ .

(٣) بحار الأنوار : ١٠٤/٤٠٥ عن المحاسن للبرقي .


لقد كان أبو حنيفة يتبنّى مذهب القياس ويعمل به كمصدر من مصادر التشريع في استنباط الأحكام ، لكنّ الإمام عليه السلام كان ينكر عليه ذلك ويبيّن له بطلان مذهبه .

وإليك بعض المحاورات التي جرت بينه وبين الإمام عليه السلام :

ذكروا أنّه وفد ابن شبرمة مع أبي حنيفة على الإمام الصادق عليه السلام فقال لابن شبرمة :( مَن هذا الذي معك ؟ )

فأجابه قائلاً : رجل له بصر ، ونفاذ في أمر الدين .

فقال له عليه السلام :(لعله الذي يقيس أمر الدين برأيه ؟ ) فأجابه : نعم .

والتفت الإمام عليه السلام إلى أبي حنيفة قائلاً له :( ما اسمك ؟ ) فقال : النعمان .

فسأله عليه السلام :( يا نعمان ! هل قست رأسك ؟ )

فأجابه : كيف أقيس رأسي ؟ .

فقال له عليه السلام :ما أراك تحسن شيئاً هل علمت ما الملوحة في العينين ؟ والمرارة في الأذنين ، والبرودة في المنخرين والعذوبة في الشفتين ؟

فبهر أبو حنيفة وأنكر معرفة ذلك ووجّه الإمام إليه السؤال التالي :(هل علمت كلمة أوّلها كفر ، وآخرها إيمان ؟ ) فقال : لا .

والتمس أبو حنيفة من الإمام أن يوضّح له هذه الأمور فقال له عليه السلام :( أخبرني أبي عن جدّي رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم أنّه قال : إنّ الله تعالى بفضله ومنّه جعل لابن آدم الملوحة في العينين ليلتقطا ما يقع فيهما من القذى ، وجعل المرارة في الأذنين حجاباً من الدوابّ فإذا دخلت الرأس دابّة ، والتمست إلى الدماغ ، فإن ذاقت المرارة التمست الخروج ، وجعل الله البرودة في المنخرين يستنشق بهما الريح ولولا ذلك لانتن الدماغ ، وجعل العذوبة في الشفتين ليجد لذة استطعام كل شيء ) .


والتفت أبو حنيفة إلى الإمام عليه السلام قائلاً : أخبرني عن الكلمة التي أوّلها كفر وآخرها إيمان ؟

فقال له عليه السلام :( إنّ العبد إذا قال : لا إله فقد كفر فإذا قال إلاّ الله فهو الإيمان) .

وأقبل الإمام على أبي حنيفة ينهاه عن العمل بالقياس حيث قال له :(يا نعمان حدثني أبي عن جدّي رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم أنّه قال : أوّل مَن قاس أمر الدين برأيه إبليس ، قال له الله تعالى : اسجد لآدم فقال : ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) ) (١) .

والتقى أبو حنيفة مرّة أخرى بالإمام الصادق عليه السلام فقال له الإمام :( ما تقول في محرم كسر رباعيّة ظبي ؟ ) .

فأجابه أبو حنيفة : يا بن رسول الله ما أعلم ما فيه .

فقال له عليه السلام :( ألا تعلم أنّ الظبي لا تكون له رباعيّة ، وهو ثني أبداً ؟! ) (٢) .

ثم التقى أبو حنيفة مرّة ثالثة بالإمام الصادق ، وسأله الإمام عليه السلام عن بعض المسائل ، فلم يجبه عنها .

وكان من بين ما سأله الإمام هو :( أيّهما أعظم عند الله القتل أو الزنا ؟ ) فأجاب : بل القتل .

فقال عليه السلام :(كيف رضي في القتل بشاهدين ، ولم يرضَ في الزنا إلاّ بأربعة ؟ )

وهنا لم يمتلك أبو حنيفة جواباً حيث ردّ الإمام قياسه بشكل واضح .

ثم وجّه الإمام عليه السلام إلى أبي حنيفة السؤال التالي :( الصلاة أفضل أم الصيام ؟ ) فقال : بل الصلاة أفضل .

ـــــــــــــــــ

(١) أصول الكافي : ١/٥٨ ح ٢٠ وعنه في بحار الأنوار : ٤٧/٢٢٦ ح ١٦ .

(٢) مرآة الجنان : ١ / ٣٠٤ ، ونزهة الجليس : ٢ / ٥٧ .


فقال الإمام عليه السلام :( فيجب ـ على قياس قولك ـ على الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام ، وقد أوجب الله تعالى قضاء الصوم دون الصلاة ؟! ) .

وبهذا أراد الإمام أن يثبت لأبي حنيفة أنّ الدين لا يُدرك بالقياس والاستحسان ثم أخذ الإمام يركّز على بطلان مسلكه القياسي فوجّه له سؤالاً آخر هو :(البول أقذر أم المني ؟ ) فقال له : البول أقذر .

فقال الإمام عليه السلام :(يجب على قياسك أن يجب الغسل من البول ; لأنّه أقذر ، دون المنيّ ، وقد أوجب الله تعالى الغسل من المني دون البول) .

ثم استأنف الإمام عليه السلام حديثه في الردّ عليه قائلاً :(ما ترى في رجل كان له عبد فتزوّج ، وزوّج عبده في ليلة واحدة فدخلا بامرأتيهما في ليلة واحدة ، ثم سافرا وجعلا امرأتيهما في بيت واحد وولدتا غلامين فسقط البيت عليهم فقتلت المرأتان ، وبقي الغلامان أيّهما في رأيك المالك ؟ وأيّهما المملوك ؟ وأيّهما الوارث ؟ وأيّهما الموروث ؟ ) .

وهنا أيضاً صرّح أبو حنيفة بعجزه قائلاً : إنّما أنا صاحب حدود .

وهنا وجّه إليه الإمام السؤال التالي :(ما ترى في رجل أعمى فقأ عين صحيح ، وقطع يد رجل كيف يقام عليهما الحدّ ؟ ) .

واعترف مرة أخرى بعجزه فقال : أنا رجل عالم بمباعث الأنبياء ...

وهنا وجّه له الإمام السؤال التالي :(أخبرني عن قول الله لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون ( لعلّه يتذكّر أو يخشى ) (١) ـولعلّ منك شكّ ؟ ) فقال : نعم فقال له الإمام عليه السلام :( وكذلك من الله شكّ إذ قال : لعلّه ؟!) فقال : لا علم لي .

وأخذ الإمام باستفراغ كل ما في ذهن أبي حنيفة من القياس قائلاً له :

ـــــــــــــــــ

(١) طه (٢٠) : ٤٤ .


تزعم أنّك تفتي بكتاب الله ، ولست ممّن ورثه ، وتزعم أنّك صاحب قياس ، وأوّل مَن قاس إبليس لعنه الله ولم يُبنَ دينُ الإسلام على القياس وتزعم أنّك صاحب رأي ، وكان الرأي من رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم صواباً ومن دونه خطأ ؛ لأنّ الله تعالى قال : ( فاحكم بينهم بما أراك الله ) ولم يقل ذلك لغيره ، وتزعم أنّك صاحب حدود ، ومَن أُنزلت عليه أولى بعلمها منك ، وتزعم أنّك عالم بمباعث الأنبياء ، وخاتم الأنبياء أعلم بمباعثهم منك .

لولا أن يقال دخل على ابن رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم فلم يسأله عن شيء ما سألتك عن شيء ، فقس إن كنت مقيساً .

وهنا قال أبو حنيفة للإمام عليه السلام : لا أتكلم بالرأي والقياس في دين الله بعد هذا المجلس .

وأجابه الإمام عليه السلام :( كلاّ إنّ حبّ الرئاسة غير تاركك كما لم يترك من كان قبلك ) (١) .

وهكذا وقف الإمام عليه السلام موقفاً لا هوادة فيه ضدّ هذه التوجّهات الخطيرة على الإسلام ؛ فكثّف من نشاطه حولها ولاحق العناصر التي كانت تتبنّى هذه الأفكار الدخيلة ليغيّر من قناعاتها .

ونجد للإمام عليه السلام موقفاً مع ابن أبي ليلى وهو القاضي الرسمي للحكومة الأموية ، وكان يفتي بالرأي قبل أبي حنيفة وقد قابل الإمام الصادق عليه السلام وكان معه سعيد بن أبي الخضيب فقال عليه السلام :( مَن هذا الذي معك ؟ ) قال سعيد : ابن أبي ليلى قاضي المسلمين .

فسأله الإمام عليه السلام قائلاً :( تأخذ مال هذا فتعطيه هذا وتفرّق بين المرء وزوجه ولا تخاف في هذا أحداً ؟! ) قال : نعم .

ـــــــــــــــــ

(١) الاحتجاج للطبرسي : ٢ / ١١٠ ـ ١١٧ .


قال :( بأيّ شيء تقضي ؟ ) قال : بما بلغني عن رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم وعن أبي بكر وعمر ) .

قال :فبلغك أنّ رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم قال : (أقضاكم عليّ بعدي؟ ) قال : نعم قال :( كيف تقضي بغير قضاء علي ، وقد بلغك هذا ؟ )

وهكذا عرف ابن أبي ليلى أنّه قد جانب الحق فيما حكم وأفتى به .

ثم قال له الإمام عليه السلام :( التمس مثلاً لنفسك ، فو الله لا أكلّمك من رأسي كلمة أبداً ) (١) .

وقال نوح بن درّاج(٢) لابن أبي ليلى : أكنت تاركاً قولاً قلته أو قضاء قضيته لقول أحد ؟ قال : لا ، إلاّ رجل واحد ، قلت : مَنْ هو ؟ قال : جعفر بن محمد عليه السلام (٣) .

د ـ مواجهة التحريف والاستغلال السياسي للقرآن ومفاهيمه :

قام الإمام الصادق عليه السلام بحماية القرآن وصيانته من عملية التوظيف السياسي ، التي تجعل النص القرآني خادماً لأغراض سياسيّة مشبوهة ، تحاول إسباغ طابع شرعي على الحكم الظالم وشلّ روح الثورة وإطفاء روح المقاومة في نفوس الأمة وبالتالي إسقاط شرعيّة القوى الرافضة لهذهِ النظم الظالمة ؛ حتى قيل في تفسير قوله تعالى :( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ

ـــــــــــــــــ

(١) الاحتجاج : ٢ / ١٠٢ .

(٢) نوح بن درّاج من أصحاب الإمام الصادقعليه‌السلام / تنقيح المقال : ٣ / ٢٧٥ وابن أبي ليلى هو محمد بن عبد الرحمن مفتي الكوفة وقاضيها ، راجع سير أعلام النبلاء : ٦ / ٣١٠ .

(٣) حلية الأولياء : ٣ / ١٩٣ .


الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ ) (١) .

( أنّها قد نزلت في علي بن أبي طالب ) عليه السلام (٢) .

كما زيّف الإمام عليه السلام النظرة الجامدة للنصّ القرآني والتي تحاول تعطيله عن المواكبة للواقع المتغيّر والمتطوّر وحبسه في حدود الظاهر ، ولم يسمح بالتأويل الباطني الفاسد كما قاوم بعنف التفسير الذي يعتمد الرأي بعيداً عن الأحاديث الصحيحة الواردة عن الرسول صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم وأهل بيته المعصومين عليهم السلام .

قال عليه السلام :( مَن فسّر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر ، وإن أخطأ كان إثمه عليه ) (٣) .

قال عليه السلام :( الراسخون في العلم أمير المؤمنين والأئمّة من بعده ) (٤) ، وقال أيضاً :( نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله ) (٥) وجاء عن زيد بن معاوية ، عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير قول الله عزّ وجلّ :( وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم ) (٦) ،( فرسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم أفضل الراسخين في العلم قد علّمه الله عزّ وجلّ جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل ، وما كان الله لينزل عليه شيئاً لم يعلمه تأويله وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه ) (٧) .

وجاء عنه عليه السلام في تفسير قوله تعالى :( بل هو آيات بيّنات في صدور

ـــــــــــــــــ

(١) البقرة (٢) : ٢٠٤ ـ ٢٠٥ .

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٤ / ٧٣ عن أبي جعفر الاسكافي : ٢٤٠ .

(٣) تفسير العياشي : ١ / ١٧ وعنه في تفسير الصافي : ١ / ٢١ .

(٤) أصول الكافي : ١ / ٢١٣ .

(٥) المصدر السابق .

(٦) آل عمران (٣) : ٧ .

(٧) أصول الكافي : ١ / ٢١٣ .


الّذين أوتوا العلم ) (١) أنّهم(هم الأئمّة ) (٢) .

ودخل عليه الحسن بن صالح بن حي فقال له : يا بن رسول الله ! ما تقول في قوله تعالى :( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) (٣) ؟ مَن أولو الأمر الذين أمر الله بطاعتهم ؟ قال :( العلماء ) .

فلمّا خرجوا قال الحسن : ما صنعنا ! ألا سألناه مَن هؤلاء العلماء ؟!

فرجعوا إليه ، فسألوه فقال :( الأئمة منّا أهل البيت ) (٤) .

لقد ثبّت عليه السلام بأن فهم القرآن لا يتمّ إلاّ بالرجوع الى ما جاء عن الرسول صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم وأهل بيته عليهم السلام لأنه يضمن الفهم الصحيح لنصوص القرآن الكريم .

كما أنّه فتح آفاقاً جديدة لفهم القرآن وعلومه وأحكامه فحدّد المحكم والمتشابه والتأويل والتفسير والمطلق والمقيّد والجري والانطباق إلى غيرها من شؤون القرآن الكريم .