مرّ الإمام الباقر عليه السلام بمرحلة رافقت الكثير من الأحداث والظواهر في ظلّ جده وأبيه عليهما‌ السلام ويمكن تلخيصها بالشكل التالي:

١ ـ عاش الإمام الباقر عليه السلام في ظلّ جدّه الحسين عليه السلام منذ ولادته وحتى الرابعة من عمره الشريف وقد مكنه ذلك من الإطلاع على الأحداث والوقائع الاجتماعية والسياسية وإدراك طبيعة سيرها وفهم اتجاه حركتها بما أوتي من ذكاء وفهم منذ صباه.

لقد عاش الإمام الباقر عليه السلام في مقتبل عمره حادثة مصرع أعمامه وأهل بيته الطاهرين وشاهد باُم عينيه ملحمة عاشوراء ومقتل جدّه الحسين عليه السلام واُخذ مأسوراً إلى طواغيت الكوفة والشام وشارك سبايا أهل البيت عليهم السلام فيما جرى عليهم من المحن والمصائب الأليمة التي تتصدّع لها القلوب.

كما استمع إلى أقوال أبيه الساخنة وهو يخاطب الطاغية المتغطرس يزيد في الشام والتي كان منها قوله عليه السلام : يا يزيد! ومحمد هذا جدي أم جدّك ؟ فإن زعمت أنه جدّك فقد كذبت وكفرت، وإن زعمت أنه جدّي فِلمَ قتلت عترته ؟!! )(١) .

٢ ـ وعاصر الإمام الباقر عليه السلام في سنة ( ٦٣ هـ ) واقعة الحرّة التي ثار

ــــــــــــــ

(١) الفتوح: ٥ / ١٥٣ .


فيها أهل المدينة على حكم يزيد وهو في السادسة من عمره الشريف، حيث شاهد نقض أكابر أهل المدينة وفقهائها لبيعة يزيد الفاجر(١) ورأى مدينة جدّه عندما أباحها يزيد لجيشه الجاهلي ثلاثة أيّام متواليات يقتلون أهلها، وينهبون أموالهم ويهتكون أعراضهم(٢) .

٣ ـ عاصر الإمام الباقر عليه السلام في هذه المرحلة من حياته الانحرافَ الفكريَ الذي تسبب الأمويون في إيجاده مثل بثّهم للعقائد الباطلة كالجبر والتفويض والإرجاء خدمةً لسلطانهم; لأن هذه المفاهيم تستطيع أن تجعل الأمة مستسلمة للحكام الطغاة ما دامت تبررّ طغيانهم وعصيانهم لأوامر الله ورسوله.

٤ ـ ومن الظواهر التي عاصرها الإمام محمّد الباقر عليه السلام وهو في ظلّ أبيه السجّاد عليه السلام ظاهرة الانحراف السياسي وتتمثل في تحويل الأمويين للخلافة إلى ملك عضوض يتوارثه الأبناء عن الآباء، ويوزّعون فيه المناصب الحكومية على ذويهم وأقاربهم.لقد عاش عليه السلام محنة عداء الأمويين للعلويين والذي تمثل في ظاهرة سبّهم لجدّه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام على المنابر طيلة ستة عقود.

٥ ـ ومن الأحداث البارزة في حياة الإمام الباقر عليه السلام توالي الثورات المسلحة ضد الحكم الأُموي بعد واقعة كربلاء الخالدة، ففي سنة (٦٣ هـ) ثار أهل المدينة في سنة (٦٥ هـ) ثار التوابون، وفي سنة (٦٦ هـ) ثار المختار بن أبي عبيدة الثقفي وثار الزبيريون، وفي سنة (٧٧ هـ) ثار المطرّف بن المغيرة بن شعبة، وفي سنة (٨١ هـ) تمرّد عبد الرحمن بن

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الخميس: ٢ / ٣٠٠.

(٢) الكامل في التاريخ: ٤ / ١١٣ .


محمّد بن الأشعث على حكومة عبد الملك بن مروان(١) .

٦ ـ وانتشرت في هذه الفترة ظاهرة وضع الحديث المؤلمة فقد ركّز الأمويون على هذه الأداة لخدمة سلطانهم، حتّى روى ابن طرفة المعروف بنفطويه في تأريخه أن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة كانت في أيام بني أمية تقرّباً إليهم بما يظنّون أنهم يُرغمون أنوف بني هاشم(٢) .

٧ ـ أما الانحراف الأخلاقي والاجتماعي فقد استشرى في أوساط الأمة حيث اشتهر يزيد بن معاوية بفسقه إذ كان يشرب الخمر ويلعب بالكلاب والقرود ويقضي أوقاته بين المغنّين والمغنّيات وشاع عنه ذلك وعرفه عامّة الناس. وكان مروان بن الحكم أيضاً فاحشاً بذيئاً، كما كان أولاده وأحفاده على شاكلته(٣) .

وأشاع الأمويون بين المسلمين روح التعصّب فقرّبوا العرب وأبعدوا غير العرب وأثاروا الشعوبية فمزّقوا بذلك وحدة الصف الإسلامي وأثاروا الأحقاد وزرعوا بذور الشر في قلوب أبناء المجتمع الإسلامي.

٨ ـ وعاش الإمام الباقر عليه السلام في هذه المرحلة من حياته في ظلّ سيرة أبيه عليه السلام بكل وجوده الذي كان يركز نشاطه على إعادة بناء المجتمع الإسلامي وتشييد دعائم العقيدة الإسلامية القويمة، حيث كان يحاول الإمام زين العابدين عليه السلام من خلال بثّ القيم العقائدية والأخلاقية عبر الأدعية وتوجيه رسائل الحقوق وما شابه ذلك صياغة كيان الجماعة الصالحة التي كان عليها أن تتولى عمليّة التغيير في المجتمع الذي راح يتردّى باستمرار.

ــــــــــــــ

(١) البداية والنهاية: ٩ / ١٣٨.

(٢) شرح نهج البلاغة: ٩ / ١٣٨.

(٣) المصدر السابق: ١١ / ٤٦ .


وكان يشارك أباه السجّاد عليه السلام في أهدافه وخطواته وأساليبه المتعددة في المرحلة التي استغرقت ثلاثة وثلاثين عاماً والتي تمثّلت في الدعاء والإنفاق والعتق والتربية المباشرة للرقيق والأحرار باعتبارها نشاطاً بارزاً للإمام زين العابدين عليه السلام خلال هذه المرحلة.

٩ ـ وقف الإمام الباقر عليه السلام مواقف أبيه من الثورات والحركات المسلحة التي كانت تهدف إلى إسقاط النظام الفاسد إذ كان يرشدها ويقودها بصورة غير مباشرة من دون أن يعطي للحكام أي دليل يدل على التنسيق من الإمام عليه السلام مع الثوّار ضد الحكم الأُموي الغاشم.

١٠ ـ وكان للإمام الباقر دور بارز وهو في ظلّ أبيه في حركته لتأسيس صرح العلم والمعرفة الإسلامية حيث كان يحضر المحافل العامة ليحدّث الناس ويرشدهم، كما كان يفسّر القرآن ويعلّم الناس الأحاديث النبويّة الشريفة ويثقّفهم بالسيرة النبويّة المباركة.

١١ ـ إن التنصيص من الإمام السجّاد عليه السلام على إمامة ابنه الباقر يعود تأريخياً إلى النصوص التي وردت عن رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم والأئمة من بعده ونصّت على إمامة اثني عشر إماماً بعد رسول الله كلهم من قريش وبني هاشم، وتداولها الصحابة والتابعون واستند إليها أهل البيت عليهم السلام .


ومن تلك النصوص التي ورد فيها اسم الإمام الباقر عليه السلام بشكل خاص هو النص الذي رواه جابر بن عبد الله الأنصاري وقد جاء في هذا النص ما يلي:

(...فقال: يا رسول الله وَمَنْ الأئمة من ولد علي بن أبي طالب؟ قال:(الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، ثم سيد العابدين في زمانه عليّ بن الحسين، ثم الباقر محمد بن عليّ وستدركه يا جابر، فإذا أدركته فاقرأه منّي السلام) (١) .

وجاء في نص آخر أنّ رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم قال لجابر بن عبد الله الأنصاري:(يولد لابني هذا ـ يعني الحسين ـابن يقال له: علي، وهو سيد العابدين... ويولد له محمد، إذا رأيته يا جابر فاقرأه عليه السلام منّي السلام، واعلم أنّ المهدي من ولده...) (٢) .

وقد تناقل الأئمة من أهل البيت عليهم السلام الوصية إماماً بعد إمام، فقد أوصى الإمام علي عليه السلام ولده الإمام الحسن عليه السلام قائلاً:(يا بنيّ إنه أمرني رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم أن أوصي إليك، وأدفع إليك كتبي وسلاحي، كما أوصى إلي ودفع إلي كتبه وسلاحه، وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين، ثم أقبل على ابنه الحسين، فقال: وأمرك رسول الله أن تدفعها إلى ابنك هذا، ثم أخذ بيد علي بن الحسين وقال: وأمرك رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم أن تدفعها إلى ابنك محمد بن علي فاقرأه من رسول الله ومنّي السلام) (٣) .

١٢ ـ وكان الإمام زين العابدين عليه السلام يوجّه الأنظار إلى إمامة ابنه الباقر عليه السلام ، ويستثمر الفرص لإعلانها أمام أبنائه أو بعض أبنائه أو خاصّته وثقاته، يصرّح تارة بها ويلمّح إليها تارة أخرى.

فحينما سأله ابنه عمر عن سرّ اهتمامه بالباقر عليهما‌ السلام أجابه:(أن الإمامة في ولده إلى أن يقوم قائمنا عليه السلام فيملأها قسطاً وعدلاً، وانه الإمام أبو الأئمة...) (٤) .

وعن الحسين ابن الإمام زين العابدين عليهما‌ السلام قال:سأل رجل أبي عليه السلام عن الأئمة، فقال: (اثنا عشر سبعة من صلب هذا، ووضع يده على كتف أخي محمد) (٥) .

ــــــــــــــ

(١) كفاية الأثر: ١٤٤ ـ ١٤٥.

(٢) مختصر تاريخ دمشق: ٢٣ / ٧٨، تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٣٢٠، سير أعلام النبلاء: ٤ / ٤٠٤.

(٣) إعلام الورى بأعلام الهدى: ٢٠٧.

(٤) كفاية الأثر: ٢٣٧.

(٥) المصدر السابق: ٢٣٩.


وكان يصرّح لابنه الباقر عليهما‌ السلام بإمامته ويقول له:(يا بنيّ إني جعلتك خليفتي من بعدي) (١) .

وروي عن أبي خالد أنه قال: قلت لعليّ بن الحسين: من الإمام بعدك ؟ قال:(محمّد ابني يبقر العلم بقراً) (٢) .

وفي مرضه الذي توفي فيه سأله الزهري قائلاً: فإلى من نختلف بعدك؟ فأجاب عليه السلام :(يا أبا عبد الله إلى ابني هذا ـ وأشار إلى محمد ابنه ـإنه وصيّي ووارثي وعيبة علمي ومعدن العلم وباقر العلم) ، فقال له الزهري: يا ابن رسول الله هلاّ أوصيت إلى أكبر أولادك؟ فقال عليه السلام :(يا أبا عبد الله ليست الإمامة بالصغر والكبر، هكذا عهد إلينا رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم وهكذا وجدنا مكتوباً في اللوح والصحيفة) (٣) .

وفي أيامه الأخيرة جمع الإمام زين العابدين عليه السلام أولاده: محمد والحسن وعبد الله وعمر وزيد والحسين، وأوصى إلى ابنه محمد... وجعل أمرهم إليه(٤) .

وفي الساعات الأخيرة من حياته التفت عليه السلام إلى ولده وهم مجتمعون عنده، ثم التفت إلى ابنه الباقر عليه السلام فقال:(يا محمد هذا الصندوق اذهب به إلى بيتك أمَا أنه لم يكن فيه دينار ولا درهم، ولكن كان مملوءاً علماً (٥) .

ــــــــــــــ

(١) كفاية الأثر: ٢٤١.

(٢) بحار الأنوار: ٤٦ / ٣٢٠.

(٣) كفاية الأثر: ٢٤٣.

(٤) كفاية الأثر: ٢٣٩.

(٥) الكافي: ١ / ٣٠٥.