إنّ أهّم أهداف القادة الإلهيّين هو إصلاح المجتمع البشريّ بتربيته على التعاليم الإلهية، ولا بدّ للمصلح أن يمرّ بمراحل من العمل الجادّ والمضني في هذا الطريق الشائك، فعليه:

١ ـ أن يربّي جيلاً من المؤمنين على التعاليم الحقّة التي جاء بها الدين والأخلاق القيّمة التي ينبغي التخلّق بها، لكي يكونوا له أعواناً على الخير.

٢ ـ أن يدخل المجتمع بكلّ ثقله، ويحضر بين الناس، ويواجه الظالمين والطغاة بتعاليمه، ويبلغهم رسالات الله.

٣ ـ أن يقاوم الفساد الذي يبثّه الظالمون في المجتمع بهدف شلّ قواه، وتفريغه من المعنويات، وإبعاده عن فطرته السليمة المعتمدة على الحقّ والخير.

ــــــــــــــ

(١) نزهة الناظر: ٤٥.

(٢) إكمال الدين : ٣٢٤، الباب ٣١، الحديث ٩.


كان للإمام عليه السلام نشاط واسع في كلّ هذه المجالات، بحيث يعدّ ـ بحقٍّ ـ في صدر قائمة المصلحين الإلهيين بالرغم من تميّز عصره بتحكّم طغاة بني أمية على الأمة وعلى مقدّراتها وجسم الخلافة الإسلامية التي تقتل من يعارضها وتهدر دمه تحت عنوان الخروج على الإسلام.

ويمكن الحديث عن أوجه نشاطه عليه السلام العملي في الجانب الاجتماعي على عدّة أوجه منها:

أ ـ الأخلاق والتربية (على مستوى الأمة وأتباع أهل البيت عليهم السلام ) :

ضرب الإمام زين العابدين عليه السلام أروع الأمثلة في تجسيد الخلق المحمدي العظيم في التزاماته الخاصة وفي سيرته مع الناس، بل مع كلّ ما حوله من الموجودات.

فكانت تتبلور فيه شخصية القائد الإسلامي المحنّك الذي جمع بين القابلية العلمية الراقية، والشرف السامق، والقدرة على جذب القلوب وامتلاكها، ومواجهة المشاكل والوقوف لصدّها بكلّ صبر وأناة وهدوء.

فالصبر الذي تحلّى به وتجلّى لنا من خلال ما تحمّله في مأساة كربلاء أكبر شاهد على عظمة صبره.

ومثابرته ومداومته على العمل الإسلامي بارزة للعيان، وهذا الفصل يمثّل جزءاً من نشاطه السياسي والاجتماعي الجادّ.

وحديث مواساته للإخوان والفقراء والمساكين والأرامل والأيتام بالبذل والعطاء والإنفاق ممّا اشتهر عند الخاصّ والعامّ.

وحُنوّه وحنانه على العبيد وعلى الأقارب والأباعد بل على أعدائه وخصومه ممّا سارت به الركبان.

وأخبار عبادته وخوفه من الله جلّ جلاله وإعلانه ذلك في كلّ مناسبة ملأت الصحف حتى خصّ بلقب (زين العابدين) و (سيّد الساجدين). وسنتحدّث عن بعض ذلك فيما بعد بإذنه تعالى، كما أنّنا أشرنا إلى جانب بسيط جدّاً من ذلك سابقاً.


ب ـ الإصلاح والدولة :

لقد شاع عند بعض المؤرّخين أنّ الأئمّة من أبناء الحسين عليهم السلام قد اعتزلوا بعد مذبحة كربلاء السياسة، وانصرفوا إلى الإرشاد والعبادة والانقطاع إلى الدنيا(١) .

ويدلّلون على قولهم هذا بتأريخ حياة الإمام السجاد عليه السلام ودعوى انعزاله عن الحياة الإسلامية العامة، ويبدو أنّ سبب هذه التصوّرات الخاطئة لدى المؤرّخين هو ما بدا لهم من عدم احتدام الأئمّة بعد الحسين عليه السلام على عمل مسلّح ضد الوضع الحاكم مع إعطائهم الجانب السياسي من القيادة معنىً ضيّقاً لا ينطبق إلاّ على عمل مسلّح من هذا القبيل.

إنّ ما يقال من أنّ الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام من أبناء الحسين عليه السلام اعتزلوا السياسة وانقطعوا عن الدنيا فهو زعم يكذّبه وينفيه واقع حياة الأئمّة الزاخرة كلّها بالشواهد على ايجابية المشاركة الفعّالة التي كانوا يمارسونها.

فمن ذلك علاقات الإمام زين العابدين عليه السلام بالأمة والزعامة الجماهيرية الواسعة النطاق والتي كان يتمتّع بها على طول الخط(٢) ; فإنّ هذه الزعامة لم يكن ليحصل عليها الإمام عليه السلام صدفةً أو على أساس مجرّد الانتساب إلى

ــــــــــــــ

(١) نشأة الشيعة والتشيّع، للشهيد السيّد محمد باقر الصدر.

(٢) قد أشرنا إلى حادثة استلام الإمام عليه‌السلام للحجر بعد أن انفرج الحجيج له، راجع الصفحة ١١١ من الكتاب.


الرسول صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ، بل على أساس العطاء والدور الايجابي الذي كان يمارسه الإمام في الأمة بالرغم من إقصائه عن مركز الحكم; فإنّ الأمة لا تمنح ـ على الأغلب ـ الزعامة مجاناً، ولا يمتلك الفرد قيادتها ويحتلّ قلوبها بدون عطاء سخيّ منه تستشعره الأمة في مختلف مجالاتها، وتستفيد منه في حلّ مشكلاتها والحفاظ على رسالتها.

ومع أنّ مزاولات الإمام عليه السلام الدينية كلّها من صميم العمل السياسي وخاصّةً في عصره حيث لم يُسمع نغمُ الفصل بين السياسة والدين بعد، نجد في طيّات حياة الإمام عليه السلام عيّنات واضحة من التدخّلات السياسية الصريحة، فهو كما يبدو من النصوص الصادرة عنه تجده رجلاً مشرفاً على الساحة السياسية، يدخل محاورات حادّة، ويتابع مجريات الأحداث، ويدلي بتصريحات خطيرة ضد الأوضاع الفاسدة التي تعيشها الأمة وإليك بعض النماذج على ذلك:

١ ـ قال عبد الله بن الحسن بن الحسن : كان عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب يجلس كلّ ليلة هو وعروة بن الزبير في مؤخّر مسجد النبي صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم بعد العشاء الآخرة، فكنت أجلس معهما، فتحدّثا ليلة، فذكروا جور من جار من بني أمية والمقام معهم، فقال عروة لعليّ: يا عليّ، إنّ من اعتزل أهل الجور والله يعلم منه سخطه لأعمالهم، فكان منهم على ميل ثم أصابتهم عقوبة الله رُجي له أن يسلم ممّا أصابهم.

قال: فخرج عروة، فسكن العقيق.

قال عبد الله بن الحسن: وخرجت أنا فنزلت سويقة(١) .

ــــــــــــــ

(١) مختصر تأريخ دمشق : ١٧ / ٢١.


أمّا الإمام عليه السلام فلم يخرج، بل آثر البقاء في المدينة طوال حياته; لأنّه كان يعدّ مثل هذا الخروج فراراً من الزحف السياسي وإخلاءً للساحة الاجتماعية للظالمين، يجولون فيها ويصولون(١) .

ولعلّ اقتراح عروة بن الزبير ـ وهو من أعداء أهل البيت عليهم السلام (٢) ـ كان تدبيراً سياسياً منه أو من قبل الحكّام لإبعاد الإمام عليه السلام عن الحضور في الساحة السياسية والاجتماعية، لكنّه عليه السلام لم يخرج وظلّ يواصل مسيرته الجهادية.

٢ ـ قال عليه السلام :(إنّ للحق دولة على العقل، وللمنكر دولة على المعروف، وللشرّ دولة على الخير، وللجهل دولة على الحلم، وللجزع دولة على الصبر، وللخرق دولة على الرفق، وللبؤس دولة على الخصب، وللشدّة دولة على الرخاء، وللرغبة دولة على الزهد، وللبيوت الخبيثة دولة على بيوتات الشرف، وللأرض السبخة دولة على الأرض العذبة، فنعوذ بالله من تلك الدول ومن الحياة في النقمات) (٣) .

وإذا كانت الدولة في اللسان العربي هي الغلبة والاستيلاء ـ وهي من أبرز مقومات السلطة الحاكمة ـ فإنّ الإمام عليه السلام يكون قد أدرج قضية السلطة السياسية في سائر القضايا الحيوية والطبيعية التي يهتمّ بها ويفكّر في إصلاحها.

فمن يا ترى؟ ومن هي البيوتات الشريفة المغلوبة في عصره عليه السلام ؟ وهل التعوّذ بالله تعالى من دولة السلطان يعني أمراً غير رفض وجوده والتنديد بسلطته؟ وهل يتصوّر السياسي أن يكون له حضور أقوى من هذا في مثل

ــــــــــــــ

(١) جهاد الإمام السجاد عليه‌السلام : ١٥٤.

(٢) لاحظ تنقيح المقال : ٢ / ٢٥١.

(٣) تأريخ دمشق : ٤١/٤١٠، مختصر ابن منظور : ١٧ / ٢٥٥.


ظروف الإمام عليه السلام وموقعه وضمن تخطيطه الشامل في قيادة حركيّة الإسلام؟ وهل يصدر مثل هذا من رجل ادُّعي أنّه ابتعد عن السياسة أو اعتزلها؟.

ج ـ مقاومة الفساد :

وإذا كان من أهم واجبات المصلح وخاصةً المصلح الإلهي مقاومة الفساد ومحاربة المفسدين في الأرض; فإنّ الإمام زين العابدين عليه السلام قام بدور بارز في أداء هذا الواجب.

وقد تميّز عصره عليه السلام بمشاكل اجتماعية من نوع خاص، وقد تكون موجودة في كثير من العصور، إلاّ أنّ بروزها في عصره كان واضحاً ومكثّفاً، كما أنّ الإمام عليه السلام قام بمعالجتها بأسلوبه الخاصّ، ممّا أعطاها صبغة فريدة تميّزت في جهاد الإمام عليه السلام وأهمها مشكلة الفقر العام ومشكلة الرقّ والعبيد. وسنعرض لهما في فصل قادم إن شاء الله تعالى.