بدأت ردود الفعل على مقتل الإمام الحسين عليه السلام بالظهور مع دخول سبايا أهل البيت عليهم السلام إلى الكوفة. فبالرغم من القمع والإرهاب اللذين مارسهما ابن زياد مع كلّ من كان يبدي أدنى معارضة ليزيد، فإنّ أصواتاً بدأت ترتفع محتجّةً على الظلم السائد.

فعندما صعد ابن زياد المنبر وأثنى على يزيد وحزبه وأساء إلى الحسين عليه السلام وأهل بيت الرسالة (قام إليه عبد الله بن عفيف الأزدي وقال له: يا عدوّ الله إنّ الكذّاب أنت وأبوك والذي ولاّك وأبوه يابن مرجانة، تقتل أولاد النبيّين وتقوم على المنبر مقام الصدّيقين؟!

فقال ابن زياد: عليّ به، فأخذته الجلاوزة فنادى بشعار الأزد، فاجتمع منهم سبعمئة فانتزعوه من الجلاوزة، فلمّا كان الليل أرسل إليه ابن زياد من أخرجه من بيته فضرب عنقه وصلبه)(١) ، ومع أنّ هذه المواجهة انتهت لصالح ابن زياد لكنّها كانت مقدّمة لاعتراضات أُخرى.

وظهرت في الشام أيضاً بوادر السخط والاستياء، الأمر الذي جعل يزيد ينحو باللائمة في قتل الحسين عليه السلام على ابن زياد، إلاّ أنّ أشدّ ردود الفعل كانت تلك التي برزت في الحجاز، فقد انتقل عبد الله بن الزبير إلى مكة في الأيّام الأولى من حكومة يزيد، واتّخذها قاعدة لمعارضته للشام، وقام بتوظيف فاجعة كربلاء للتنديد بنظام يزيد، وألقى خطاباً وصف فيه العراقيّين بعدم الوفاء، وأثنى على الحسين بن علىّ عليه السلام ووصفه بالتقوى والعبادة.

ــــــــــــــ

(١) الإرشاد: ٢/١١٧ وعنه في وقعة الطف لأبي مخنف: ٢٦٥، ٢٦٦.


وفي المدينة ألقى الإمام زين العابدين عليه السلام خطاباً في أهلها لدى عودته من الشام والعراق، يقول المؤرّخون: إنّ الإمام عليه السلام جمع الناس خارج المدينة قبل دخوله إليها، وخطب فيهم قائلاً:

(الحمد لله ربّ العالمين مالك يوم الدين بارئ الخلائق أجمعين، الذي بَعُد فارتفع في السماوات العُلى، وقَرُب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الأمور، وفجائع الدهور، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظّة الفادحة الجائحة.

أيّها القوم، إنّ الله ـ وله الحمد ـ ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتل أبو عبد الله الحسين عليه السلام وسُبي نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان، وهذه الرزيّة التي لا مثلها رزيّة.

أيّها الناس، فأيّ رجالات منكم يسرّون بعد قتله؟! أم أيّ فؤاد لا يحزن مِن أجله؟! أم أيّة عين منكم تحبس دمعها وتضنّ عن انْهمالِها؟! فلقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها، والسماوات بأركانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان ولجج البحار والملائكة المقرّبون وأهل السماوات أجمعون.

يا أيّها الناس، أيّ قلب لا ينصدع لقتله؟! أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه؟! أم أيّ سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصمّ؟!

أيّها الناس، أصبحنا مطرودين مشرّدين مذودين وشاسعين عن الأمصار، كأ نّا أولاد ترك وكابل، من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين، إنْ هذا إلاّ اختلاق.


والله، لو أنّ النبيّ تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفجعها وأكظّها وأفظعها وأمرّها وأفدحها! فعند الله نحتسب فيما أصابنا وأبلغ بنا، فإنّه عزيز ذو انتقام)(١) .

لقد جسّد هذا الخطاب ـ على قصره ـ واقعة كربلاء على حقيقتها مركّزاً على المظلومية التي لحقت بأهل البيت عليهم السلام في قتل الحسين بن علىّ عليه السلام من جانب، وأسرِ أهل بيته من جانب آخر، بالإضافة إلى المظلومية التي لحقتهم بعد واقعة الطفّ، إذ حملت رؤوس الشهداء بما فيهم سيّدهم الحسين عليه السلام فوق الأسنّة من بلد إلى بلد.

وعقّب الإمام زين العابدين عليه السلام ـ بلمحة سريعة ومعبّرة ومؤثّرة ـ واصفاً ما لقيه آل البيت من السبي والتشريد والتعامل السيّء والمهين، وهم أهل بيت الوحي ومعدن الرسالة، وهم قادة أهل الإيمان وأبواب الخير والرحمة والهداية.

وأنهى الإمام خطابه بوصف في منتهى الدقّة عن عظمة الجرائم التي ارتكبها جيش السلطة الأموية في حقّ أهل البيت عليهم السلام ، فإن الرسول صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم لو كان يأمر هؤلاء بالتمثيل بأهل البيت وتعذيبهم; لما كانوا يزيدون على ما فعلوا، فكيف بهم وقد نهاهم عن التمثيل حتى بالكلب العقور؟! وكيف يمكن توجيه كلّ ما فعلوه وقد أوصاهم النبيّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم بحفظه في عترته، ولم يطالبهم بأجر للرسالة سوى المودّة في قرباه؟!

فالإمام زين العابدين عليه السلام حاول في خطابه هذا تكريس مظلومية أهل البيت لاستنهاض الروح الثورية في أهل المدينة، وتحريك الوعي النهضوي ضدّ الظلم والجبروت الأموي والطغيان السفياني.

ــــــــــــــ

(١) اللهوف: ١١٦، بحار الأنوار : ٤٥ / ١٤٨ ـ ١٤٩.


ولم تكن الأوضاع هادئة في المدينة في هذه السنة التي كانت تحت إدارة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وأوضح شاهد على اضطراب الأوضاع في المدينة هو استبدال ثلاثة ولاة خلال عامين، واستبدل يزيد الوليد بن عتبة بعثمان بن محمد بن أبي سفيان(١) .

وأراد عثمان أن يدلّل على كفاءته في إدارة المدينة ويكسب رضا وجوهها عن يزيد وعنه فأرسل وفداً من أبناء المهاجرين والأنصار إلى دمشق، ليشاهدوا الخليفة الشابّ عن كثب وينالوا نصيبهم من هداياه، إلاّ أن الوفد رأى في سلوك يزيد ما يشين ويقبح.

ولما رجعوا إلى المدينة أظهروا شتم يزيد وعيبه، وقالوا: قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويضرب بالطنابير، وتعزف عنده القِيان، ويلعب بالكلاب، ويسمر عنده الحراب ـ وهم اللصوص ـ وإنّا نشهدكم أنّا قد خلعناه.

وقال عبد الله بن حنظلة: لو لم أجد إلاّ بنيّ هؤلاء لجاهدته بهم، وقد أعطاني وأكرمني وما قبلت عطاءه إلاّ لأتقوّى به.

فخلعه الناس وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل على خلع يزيد وولّوه عليهم(٢) .

ثورة أهل المدينة :

إنّ نقد الوفد المدني ليزيد لم يكن هو الدليل الوحيد عند أهل المدينة على انحراف يزيد وتنكّره للإسلام وجوره وطغيانه، بل إنّهم كانوا قد لمسوا جور يزيد وعمّاله على البلدان الإسلامية وفسقهم وشدّة بطشهم واستهتارهم بالحرمات الإلهية التي لا مجال لتأويلها، إذ كيف يمكن تأويل ما ارتكبه من القتل الفظيع في حقّ الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام ريحانة الرسول وسيّد شباب أهل الجنة وما اقترفه من السبي لأهله وحُرَمه؟ وكيف يمكن تأويل ما أظهره من شربه للخمور التي حرّمها الله بالنصّ الصريح؟!

ــــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٥ / ٤٧٩، ٤٨٠ .

(٢) الطبري : ٥ / ٤٨٠ وعنه في الكامل في التأريخ : ٤ / ١٠٣.


هذا، فضلاً عن حقد الأمويين على الأنصار، والذي لم يتردّد الأمويون في إظهاره لهم، ومن هنا لم يتلكّأ أهل المدينة في إخراج عامل يزيد عليها، فحاصروا بني أمية وأتباعهم، وكلّم مروان بن الحكم ـ وهو العدوّ اللدود لآل الرسول صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ـ الإمام زين العابدين عليه السلام في منح الأمان له، فاستجاب الإمام عليه السلام لهذا الطلب تكرّماً(١) وإغضاءً عن كلّ ما ارتكبه هذا العدوّ في حقّ أهل البيت عليهم السلام ، في دفن الإمام الحسن عليه السلام وفي الضغط على الإمام الحسين عليه السلام من أجل أخذ البيعة ليزيد.

ولمّا بلغ أمر الثورة إلى مسامع يزيد أرسل مسلم بن عقبة ليقضي على ثورة أهل المدينة ـ وهي مدينة رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ومهبط وحي الله ـ وزوّده بتعليمات خاصّة تجاههم قائلاً له:

اُدع القوم ثلاثاً فإن أجابوك وإلاّ فقاتلهم، فإذا ظهرتَ عليهم فأبحها ـ أي المدينة ـ ثلاثاً، فما فيها من مال أو دابّة أو سلاح أو طعام فهو للجند(٢) . وأمرهُ أن يُجهِز على جريحهم ويقتل مدبرهم(٣) .

وصل جيش يزيد إلى المدينة، وبعد قتال عنيف مع أهلها استبسل فيه الثائرون دفاعاً عن دينهم، واستشهد أغلب المدافعين بمن فيهم عبد الله بن حنظلة ومجموعة من صحابة رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ونفّذ قائد الجيش أوامر سيّده يزيد، وأوعز إلى جنوده باستباحة المدينة، فهجم الجند على البيوت وقتلوا الأطفال والنساء والشيوخ، كما أسروا آخرين.

ــــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٤ /٤٨٥ ، والكامل في التأريخ : ٤ / ١١٣.

(٢) الطبري : ٥ / ٤٨٤ وعنه في الكامل.

(٣) التنبيه والإشراف: ٢٦٣ ط. القاهرة.


قال المؤرّخ ابن كثير: أباح مسلم بن عقبة ـ الذي يقول فيه السلف (مسرف بن عقبة) قبّحه الله من شيخ سوء ما أجهله ـ المدينة ثلاثة أيام كما أمره يزيد ـ لا جزاه الله خيراً ـ وقتل خلقاً من أشرافها وقرّائها، وانتهب أموالاً كثيرة منها... وجاءته امرأة فقالت: أنا مولاتك وابني في الأُسارى، فقال: عجّلوه لها، فضرب عنقه، وقال: أعطوها رأسه، ووقعوا على النساء حتى قيل: إنّه حبلت ألف امرأة في تلك الأيام من غير زوج.

قال المدائني، عن هشام بن حسان: ولدت ألف امرأة من أهل المدينة بعد وقعة الحرّة من غير زوج. وروي عن الزهري أنّه قال: كان القتلى يوم الحرّة سبعمئة من وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ووجوه الموالي ممّن لا أعرف من حرٍّ وعبد وغيرهم عشرة آلاف(١) .

وحدث مرةً أن دخلت الجيوش الشامية أحد البيوت، فلمّا لم يجدوا فيه إلاّ امرأة وطفلاً سألوها إن كان في البيت شيء ينهبونه، فقالت: إنّه ليس لديها مال، فأخذوا طفلها وضربوا رأسه بالحائط فقتلوه بعد أن انتثر دماغه من أثر الضرب بالحائط(٢) .

ثمّ نصب كرسيّ لمسلم بن عقبة، وجيء بالأُسارى من أهل المدينة فكان يطلب من كلّ واحد منهم أن يبايع ويقول: إنّني عبد مملوك ليزيد بن

ــــــــــــــ

(١) البداية والنهاية : ٨ / ٢٢٠ ، وتأريخ الخلفاء: ٢٣٣. أمّا الطبري فلم يذكر إلاّ إباحة القتال والأموال ثلاثة أيام: ٥/٤٩١ وترك ذكر الفروج وتبعه الجزري في الكامل.

(٢) تاريخ ابن عساكر : ١٠ / ١٣، المحاسن والمساوئ: ١ / ١٠٤.


معاوية يتحكّم فيّ وفي دمي وفي مالي وفي أهلي ما يشاء(١) .

وكلّ من كان يمتنع ولم يبايع بالعبودية ليزيد وكان يصرّ على القول بأنّه عبدٌ لله ـ سبحانه وتعالى ـ كان مصيره القتل(٢) .

وجيء له بيزيد بن عبد الله ـ وجدّته أم سلمة زوج رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ـ مع محمد بن حذيفة العدوي، فطلب اليهما أن يبايعا، فقالا: نحن نبايع على كتاب الله وسنّة نبيّه، فقال مسلم: لا والله لا أقيلكم هذا أبداً، فقدّمهما فضرب أعناقهما.

فقال مروان بن الحكم ـ وكان حاضراً ـ : سبحان الله! أتقتل رجلين من قريش أتيا ليؤمنا فضربت أعناقهما؟! فنخس مسلم مروان بالقضيب في خاصرته، ثمّ قال له: وأنت والله لو قلت بمقالتهما ما رأيت السماء إلاّ برقة (أي لقُتِلْتَ)(٣) .

ثمّ جيء بآخر فقال : إنّي أبايع على سنّة عمر، فقال: اقتلوه، فقتل(٤) .

وأُتي بزين العابدين عليه السلام إلى مسلم بن عقبة، وهو مغتاظ عليه فتبرّأ منه ومن آبائه. فلمّا رآه وقد أشرف عليه ارتعد وقام له، وأقعده إلى جانبه، وقال له: سلني حوائجك، فلم يسأله في أحد ممّن قدّم إلى السيف إلاّ شفّعه فيه، ثمّ انصرف عنه.

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري ٥/٤٩٣ و ٤٩٥ وعنه في الكامل في التاريخ: ٤/١١٨ وفي مروج الذهب ٣: ٧٠، الكامل في التاريخ ٤: ١١٨، والبداية والنهاية ٨ : ٢٢٢. وقد جاء في تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٥١: كان الرجل من قريش يؤتى به فيقال: بايع على أنّك عبد قنّ ليزيد، فيقول: لا. فيضرب عنقه.

(٢) الكامل في التأريخ : ٤ / ١١٨، مروج الذهب : ٣ / ٧٠.

(٣) تأريخ الطبري : ٥ / ٤٩٢ وعنه في الكامل في التاريخ : ٤ / ١١٨.

(٤) تأريخ الطبري : ٥ / ٤٩٣، الأخبار الطوال: ٢٦٥.


فقيل لعليّ بن الحسين عليه السلام : رأيناك تحرّك شفتيك، فما الذي قلت؟

قال:(قلت: اللهمّ ربّ السماوات السبع وما أظللن، والأرضين السبع وما أقللن، ربّ العرش العظيم، ربّ محمّد وآله الطاهرين، أعوذ بك من شرّه، وأدرأ بك في نحره، أسألك أن تؤتيني خيره، وتكفيني شرّه) .

قيل لمسلم: رأيناك تسبّ هذا الغلام وسلفه، فلمّا أتي به إليك رفعت منزلته؟ فقال: ما كان ذلك لرأي منّي، لقد مُلئ قلبي منه رعباً، ولم يبايع الإمام عليه السلام ليزيد كما لم يبايع عليّ بن عبد الله بن العباس، حيث امتنع بأخواله من كندة، فالحصين بن نمير نائب مسلم بن عقبة قال: لا يبايع ابن اختنا إلاّ كبيعة علي بن الحسين(١) .

وذكر المؤرّخون : أنّ الإمام زين العابدين عليه السلام كفل في واقعة الحرّة أربعمئة امرأة من عبد مناف، وظلّ ينفق عليهنّ حتى خروج جيش مسلم من المدينة(٢) .

وجاء الحديث من غير وجه: أنّ مسرف بن عقبة لمّا قدم المدينة أرسل إلى عليّ بن الحسين عليهما‌ السلام فأتاه، فلما صار إليه قرّبه وأكرمه وقال له: أوصاني أمير المؤمنين ببرّك وتمييزك من غيرك...(٣) .

وواضح أنّ البيعة إذا ما عرضت بشرطها الاستعبادي على الإمام عليه السلام فإنّه سيستمرّ على نهجه الرافض، وأنّ معنى الرفض هنا إنّه يتضرّج بدمائه الزكية، وهذا يعني دخول صورة من صور النقمة العارمة ضد الممارسات الأموية القمعية التي سوف تزلزل أعمدة الكيان الحاكم.

ــــــــــــــ

(١) النظرية السياسية لدى الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، محمود البغدادي: ٢٧٣. المجمع العالمي لأهل البيت عليهم‌السلام ـ الطبعة الأولى سنة ١٤١٥هـ .

(٢) كشف الغمة : ٢/٣١٩ عن نثر الدرر للآبي (ق ٤ هـ) عن ابن الأعرابي.

(٣) الإرشاد: ٢/١٥٢ .


وبعد انتهاء الأيام الدامية على مدينة الرسول صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم قال مسلم بن عقبة: اللّهمّ إنّي لم أعمل عملاً قط بعد شهادة لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله أحبّ إليّ من قتل أهل المدينة، ولا أرجى عندي في الآخرة(١) .

كان مسلم في تلك الأيام قد تجاوز التسعين من عمره، أي انّه كان قريباً جداً من حتفه وقد هلك بُعيد وقعة الحرّة وقبل أن يصل إلى مكة، وكان من الذين لم يحملوا من الإسلام إلاّ اسمه، ووظّفوا ظاهر القرآن والحديث لتسويغ جرائمهم، فقد كان من المخلصين لمعاوية بن أبي سفيان، وفي صفّين كان يقود معسكر معاوية بن أبي سفيان ضد الخليفة الشرعي للمسلمين، ألا وهو الإمام عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام (٢) .

ولعلّه لم يسمع حديث الرسول صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم الذي جاء فيه: (من أخاف أهل المدينة أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) (٣) .

ولعلّه قد سمع هذا الحديث، لكنّه لمّا وجد من يعتبر نفسه خليفة للنبي صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم قد تجرّأ على قتل ابن بنت النبي صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم وسبي بناته من مدينة إلى أُخرى، دون أن يعترض عليه أحد، فمِمّ يخشى هو إن اعتدى على مدينة النبي صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ؟!

وبعد أن قمع بوحشيّة ثورة أهل المدينة وأجهض انتفاضتهم; توجّه مسلم إلى مكة التي أعلن فيها عبد الله بن الزبير ثورته على الحكم الأموي،

ــــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٥ / ٤٩٧ وعنه في الكامل في التاريخ: ٤/١٢٣ .

(٢) وقعة صفين : ٢٠٦ و ٢١٣ وفي الإصابة : ٣ / ٤٩٣ ـ ٤٩٤.

(٣) البداية والنهاية : ٨ / ٢٢٣، رواه عن النسائي، وروى مثله عن أحمد بن حنبل. اُنظر أحاديث أُخرى عن هذا الموضوع في كنز العمال، كتاب الفضائل الحديث ٣٤٨٨٦، ووفاء الوفاء: ٩٠، وسفينة البحار: ٨/٣٨ ، ٣٩ عن دعائم الإسلام.


لكنّه لقي حتفه في الطريق، فتسلّم الحصين بن نمير قيادة الجيش الأموي بناءً على أوامر يزيد، وعندما وصل أطراف مكة فرض حصاراً عليها وضرب الكعبة بالمنجنيق وأحرقها(١) .

وفي الوقت الذي كانت فيه مكّة تحت حصار الجيش الأموي لقي يزيد حتفه، فعقد قائد الجيش الأموي ـ الذي لم يكن وقتذاك يعرف زعيمه الذي يقاتل معه ـ مفاوضات مع ابن الزبير أعرب له فيها عن استعداده لقبول بيعته شريطة أن يرافقه إلى الشام، إلاّ أنّ ابن الزبير رفض الشرط، فعاد الحصين وجيشه إلى الشام.

انشقاق البيت الأموي :

مات يزيد في ربيع الأول من سنة (٦٤ هـ) وهو في سنّ الثامنة والثلاثين من عمره في حُوّارين، وكانت صحيفة أعماله في مدّة حكمه ـ الذي استمر ثلاث سنوات وبضعة أشهر ـ مُسودّة بقتل ابن بنت النبيّ وأسر أهل بيت الوحي وحرائر الرسالة إلى جانب القتل الجماعي لأهل المدينة وهدم الكعبة المشرّفة.

وبعد موت يزيد بايع أهل الشام ولده معاوية، إلاّ أنّ حكمه لم يستمر أكثر من أربعين يوماً، إذ أعلن تنازله عن العرش، ومات بعدها في ظروف غامضة، فانشقّت القيادات المؤيّدة لبني أمية على نفسها إلى كتلتين: كتلة أيّدت زعامة مروان بن الحكم، وقد مثّل هذا الاتجاه القبائل اليمانية بقيادة حسّان الكلبي، بينما أيّدت قوى القيسيّين بقيادة الضحّاك بن قيس الفهري، عبد الله بن الزبير.

ــــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٥ / ٤٩٨ وعنه في الكامل في التأريخ : ٤ / ٢٤ عن الكلبي عن عوانة بن الحكم، ثم روى أخباراً عن ابن عمر تحاول نسبة الحرق إلى أصحاب ابن الزبير خطأً، في محاولة لتبرير يزيد الشّرير.


وإبّان خلافة يزيد القصيرة امتدّت; أيدي الكلبييّن تدريجياً إلى مراكز السلطة، فمارسوا ضغوطاً شديدة على القيسييّن،الأمر الذي أزعج الضحّاك كثيراً فانتهز الفرصة بعد موت يزيد ليبايع ابن الزبير ـ وهو من العرب العدنانية ـ واشتبك الكلبيّون والقيسيّون في (مرج راهط) (١) في معركة أسفرت عن انتصار الكلبيّين، فأصبح مروان بن الحكم خليفة، واستقرّت الأوضاع المضطربة في الشام نسبيّاً.

تزايد المعارضة للحكم الأموي :

صعّد عبد الله بن الزبير معارضته للشام التي بدأها بعد موت معاوية، حيث كان قد دعا الحجازييّن لمبايعته كخليفة للمسلمين، فاستجابت له الأكثرية الساحقة منهم، وشهد العراق من جديد تحرّكات ضد الحكم الأموي.

ويبدو أنّ الذين دعو الإمام الحسين عليه السلام إلى العراق عبر الرسائل المتوالية ورحّبوا بممثّله إليهم ثمّ تخلّوا عنه وعن الحسين عليه السلام بتلك الصورة المخزية ندموا على موقفهم المُذلّ ذاك، لكن هل الذين تحرّكوا ضدّ الشام كانوا نادمين جميعاً؟

الجواب : كلاّ، فليس جميع الذين تحركوا بعد موت يزيد كانوا يحملون همّ الإسلام، فقد كان هناك من يريد إخضاع الشام للعراق وإعادة عاصمة الخلافة إلى العراق.

وعلى أيّ حال، فقد أعلن المتديّنون والسياسيّون معارضتهم ضد حكم

ــــــــــــــ

(١) منطقة في شرق دمشق.


الشام، لكنّهم لم يحققوا شيئاً يذكر(١) على صعيد إسقاط الحكم على المدى القريب، فقتل سليمان بن صرد قائد التوّابين، ورجع من بقي من جيشه إلى الكوفة، وفي تلك الغضون أظهر المختار بن أبي عبيدة الثقفي دعوته حاملاً شعار يا لثارات الحسين عليه السلام .

بدأ المختار بإعداد الشيعة للثورة بعد فشل ثورة التوّابين، وكان يعرف جيداً أنّ أيّ تحرّك شيعي يقتضي زعامة من أهل بيت الرسالة عليهما‌ السلام ، وأنّ الانطلاق ينبغي أن يتمّ باسمهم ومَن أفضل من عليّ بن الحسين عليه السلام ؟ وإن رفض الإمام الاستجابة لذلك فليس أمامه غير محمد بن علي بن أبي طالب وهو عمّ الإمام السجاد عليه السلام .

من هنا كاتب المختار الإمام زين العابدين عليه السلام وعمّه معاً، أمّا الإمام عليه السلام ـ فلم يعلن عن تأييده الصريح له، لكنّه عليه السلام أمضى عمله عندما ثأر من قتلة أبيه الحسين عليه السلام . أمّا عمه محمد بن الحنفيّة فقد أجاب على سؤال الوفد الذي جاء من الكوفة ليستفسر عن مدى شرعية الانضواء تحت راية المختار قائلاً: أما ما ذكرتم من دعاء مَن دعاكم إلى الطلب بدمائنا فوالله لوددت أنّ الله انتصر لنا من عدوّنا بمن شاء من خلقه(٢) .

وفهم الوفد تأييد ابن الحنفية لحركة المختار وهكذا استطاع المختار أن يستقطب كبار الشيعة مثل إبراهيم بن مالك الأشتر وغيره.

ــــــــــــــ

(١) زندگاني عليّ بن الحسين (= حياة الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام ) : ٩٢.

(٢) تاريخ الطبري : ٦/١٢ ـ ١٤ برواية أبي مخنف وابن نما الحلّي في كتابه: شرح الثأر روى عن والده : أنّه قال لهم: قوموا بنا إلى إمامي وإمامكم علي بن الحسين، فلمّا دخلوا عليه وأخبروه خبرهم الذي جاؤوا لأجله قال لعمّه محمّد : يا عمّ، لو أن عبداً زنجيّاً تعصّب لنا أهل البيت لوجب على الناس مؤازرته، وقد وليّتك هذا الأمر فاصنع ما شئت. فخرجوا وهم يقولون : قد أذن لنا زين العابدين ومحمّد بن الحنفية، كما روى عنه في بحار الأنوار : ٤٥/٣٦٥ .


وأرسل المختار رأسَيْ عبيد الله بن زياد وعمر بن سعد إلى الإمام فسجد عليه السلام شكراً لله تعالى وقال:(الحمد لله الذي أدرك لي ثأري من أعدائي وجزى الله المختار خيراً) (١) .

وقال اليعقوبي: ووجّه المختار بالرأس الخبيث (أي: رأس ابن زياد) إلى الإمام عليّ بن الحسين، وعهد إلى رسوله بأن يضع الرأس بين يدي الإمام وقت ما يوضع الطعام على الخوان بعد الفراغ من صلاة الظهر، وجاء الرسول إلى باب الإمام، وقد دخل الناس لتناول الطعام، فرفع الرجل عقيرته ونادى: يا أهل بيت النبوّة! ومعدن الرسالة،ومهبط الملائكة، ومنزل الوحي! أنا رسول المختار بن أبي عبيدة الثقفي ومعي رأس عبيد الله بن زياد... ولم تبق علوية في دور بني هاشم إلاّ صرخت(٢) ، ويقول المؤرّخون: إنّ الإمام زين العابدين عليه السلام لم يُرَ ضاحكاً منذ أن استشهد أبوه إلاّ في اليوم الذي رأى فيه رأس ابن مرجانة(٣) .

وعن بعض المؤرّخين: أنّه لمّا رأى الإمام رأس الطاغية قال:(سبحان الله، ما اغتّر بالدنيا إلاّ من ليس لله في عنقه نعمة، لقد أُدخل رأس أبي عبد الله على ابن زياد وهو يتغدّى) (٤) .

سنوات المحن والاضطرابات :

كانت الفترة الممتدّة بين عامي (٦٦ و ٧٥ هـ) بالنسبة للشام والحجاز

ــــــــــــــ

(١) رجال الكشي: ١٢٧ ح ٢٠٣ وعنه في. المختار الثقفي: ١٢٤.

(٢) تأريخ اليعقوبي : ٢/٢٥٩ ط بيروت.

(٣) المصدر السابق .

(٤) العقد الفريد :٥ / ١٤٣.


والعراق فترة محن واضطرابات، فلم يتحقّق في هذه المناطق الهدوء والأمن. وشهد الحجاز هجوم قوات عبد الملك على مكة ومقتل عبد الله بن الزبير، إلاّ أنّ نصيب العراق من الاضطرابات كان أكبر من المنطقتين السابقتين. ويمكن القول بجرأة أنّ ما لحق بأهل العراق كان هو النتيجة الطبيعية لدعاء سبط الرسول الأعظم صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم عليهم، إذ رفع الإمام الحسين عليه السلام يده بالدّعاء في كربلاء وقال :(اللهم احبس عنهم قطر السماء وابعث عليهم سنين كسنيّ يوسف وسلّط عليهم غلام ثقيف فيسومهم كأساً مصبَّرة فإنّهم كذّبونا وخذلونا ...) (١) .

وانتقم الله تعالى من أهل العراق الذين كذّبوا الحسين بن عليّ عليه السلام وخذلوه بواسطة رجل إرهابي مستبد هو الحجاج بن يوسف الثقفي الذي كان (لا يصبر عن سفك الدماء، وارتكاب أمور لا يقدر عليها غيره)(٢) .

واتّخذ الحجّاج سجوناً لا تقي من حرٍّ ولا برد، وكان يعذّب المساجين بأقسى ألوان العذاب وأشدّه، فكان يشدّ على يد السجين القصب الفارسي المشقوق، ويجر عليه حتى يسيل دمه.

يقول المؤرّخون: إنّه مات في حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة منهنّ ستّ عشرة ألف مجرّدات، وكان يحبس الرجال والنساء في موضع واحد(٣) وأحصي في سجنه ثلاثة وثلاثون ألف سجين لم يحبسوا في دَين ولا تبعة(٤) ، وكان يمرّ على أهل السجن فيقول لهم:( اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري : ٥/٤٥١ وعنه في وقعة الطف: ٢٥٤ وقريباً منه في الإرشاد : ٢/١١٠، ١١١. وليس فيه: سنين كسنيّ يوسف ، ولا غلام ثقيف .

(٢) حياة الحيوان : ١٦٧ .

(٣) حياة الحيوان : ١ / ١٧٠.

(٤) معجم البلدان : ٥ / ٣٤٩.


تُكَلِّمُونِ ) (١) .

وقد كان يسخر من المسلمين الذين يزورون قبر النبي صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ويقول: تباً لهم، إنّما يطوفون بأعواد و رمّة بالية، هلاّ طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك! ألا يعلمون أنّ خليفة المرء خير من رسوله(٢) ؟!

وعهد عبد الملك بن مروان بالملك من بعده إلى ولده الوليد، وأوصاه بالإرهابي الحجّاج خيراً، وقال له: وانظر الحجاج فأكرمه، فإنّه هو الذي وطّأ لكم المنابر وهو سيفك يا وليد ويدك على من ناواك، فلا تسمعنّ فيه قول أحد وأنت إليه أحوج منه إليك، وادع الناسَ إذا متُّ إلى البيعة، فمن قال برأسه هكذا فقل بسيفك هكذا...(٣) .

ومثّلت هذه الوصية اندفاعاته نحو الشرّ حتى الساعات الأخيرة من حياته، إذ لم يبق بعدها إلاّ لحظات حتى وافته المنيّة، وكانت وفاته في شوال سنة (٨٦ هـ)(٤) وقد سئل عنه الحسن البصري فقال: ما أقول في رجل كان الحجاج سيئة من سيئاته(٥) .

ــــــــــــــ

(١) تهذيب التهذيب : ٢ / ٢١٢.

(٢) شرح النهج : ١٥ / ٢٤٢ عن كتاب: افتراق هاشم وعبد شمس للدبّاس. وقد ورد الخبر قبله في الكامل للمبرّد : ١/٢٢٢. وفي سنن أبي داود: ٤/٢٠٩ والبداية والنهاية : ٩/١٣١ والنصائح الكافية لابن عقيل: ١١ عن الجاحظ ، وفي رسائل الجاحظ : ٢/١٦.

(٣) تاريخ الخلفاء: ٢٢٠.

(٤) البداية والنهاية : ٩ / ٦٨.

(٥) مروج الذهب : ٣ / ٩٦.