لقد توفّرت للإمام زين العابدين عليه السلام جميع المكوّنات التربوية الرفيعة التي لم يظفر بها أحد سواه، وقد عملت على تكوينه وبناء شخصيّته بصورة متميّزة، جعلته في الرعيل الأول من أئمّة المسلمين الذين منحهم الرسول صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ثقته، وجعلهم قادة لأمته وأمناء على أداء رسالته.

نشأ الإمام في أرفع بيت وأسماه ألا وهو بيت النبوّة والإمامة الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه (١) ، ومنذ الأيام الأولى من حياته كان جده الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام يتعاهده بالرعاية ويشعّ عليه من أنوار روحه التي طبّق شذاها العالم بأسره، فكان الحفيد ـ بحقٍّ ـ صورة صادقة عن جدّه، يحاكيه ويضاهيه في شخصيّته ومكوّناته النفسية.

كما عاش الإمام عليه السلام في كنف عمّه الزكي الإمام الحسن المجتبى عليه السلام سيّد شباب أهل الجنّة وريحانة رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم وسبطه الأول، إذ كان يغدق عليه من عطفه وحنانه، ويغرس في نفسه مُثُلَه العظيمة وخصاله السامية، وكان الإمام عليه السلام طوال هذه السنين تحت ظلّ والده العظيم أبي الأحرار وسيّد

ــــــــــــــ

(١) إشارة لقوله تعالى: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) . النور (٢٤) : ٣٦ ـ ٣٧.


الشهداء الإمام الحسين بن علىّ عليهما‌ السلام الذي رأى في ولده علي زين العابدين عليه السلام امتداداً ذاتيّاً ومشرقاً لروحانيّة النبوّة ومُثُل الإمامة، فأولاه المزيد من رعايته وعنايته، وقدّمه على بقية أبنائه، وصاحَبَه في أكثر أوقاته.

لقد ولد الإمام زين العابدين عليه السلام في المدينة في اليوم الخامس من شعبان سنة (٣٦ هـ)(١) يوم فتح البصرة، حيث إنّ الإمام علي عليه السلام لم ينتقل بعد بعاصمته من المدينة إلى الكوفة. وتوفّي بالمدينة سنة (٩٤ أو ٩٥ هـ).

وهناك من المؤرخين ذكر أنّه ولد في سنة (٣٨ هـ) وفي مدينة الكوفة حيث كان جدّه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قد اتّخذها عاصمة لدولته بعد حرب الجمل، فمن الطبيعي أن يكون الحسين السبط عليه السلام مع أهله عن أبيه عليه السلام في هذه الفترة بشكل خاص(٢)

أمه :

اسمها (شهربانو) أو (شهر بانويه) أو (شاه زنان) بنت يزدجرد آخر ملوك الفرس(٣) ، وذكر البعض أنّ اُمه قد أجابت نداء ربّها أيّام نفاسها فلم تلد سواه(٤) .

ــــــــــــــ

(١) الإرشاد : ٢/١٣٧، ومناقب آل أبي طالب : ٤/١٨٩، والإقبال : ٦٢١ ، ومصباح الكفعمي: ٥١١ ، والأنوار البهية: ١٠٧ قال: سنة ٣٦ يوم فتح البصرة.

(٢) تاريخ أهل البيت، لابن أبي الثلج البغدادي م ٣٢٥ : ٧٧.

(٣) رغم أنّ أغلب المؤرخين متفقون على أنّ أم الإمام السجاد عليه‌السلام هي ابنة الملك يزدجرد إلاّ أن هناك من يعتبر ذلك مجرد أسطورة، راجع زندگانى علي بن الحسين عليه‌السلام للسيد جعفر الشهيدي. والإسلام وإيران للشهيد مطهري: ١٠٠ ـ ١٠٩ وحول السيدة شهر بانو للشيخ اليوسفي الغروي في مجلة رسالة الحسين عليه‌السلام : ٢٤/١٤ ـ ٣٩ ، والثابت أن أم الإمام السجاد عليه‌السلام سبيّة من سبايا الفرس، ولا يثبت أكثر من هذا.

(٤) سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام : ٢ / ١٨٩، المجمع العالمي لأهل البيت عليهم‌السلام الطبعة الأولى ١٤١٤ هـ .


كُناه :

أبو الحسن، أبو محمّد، أبو الحسين، أبو عبد الله (١) .

ألقابه:

(زين العابدين) و (ذو الثفنات) و (سيّد العابدين) و (قدوة الزاهدين) و (سيّد المتّقين) و (إمام المؤمنين) و (الأمين) و (السجّاد) و (الزكي) و (زين الصالحين) و (منار القانتين) و (العدل) و (إمام الأمة) و (البكّاء)، وقد اشتهر بلقبي (السجاد) و (زين العابدين) أكثر من غيرهما.

إنّ هذه الألقاب قد منحها الناس للإمام عندما وجدوه التجسيد الحيّ لها، والمصداق الكامل لـ :

( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً ) (٢) ، وبعض الذين منحوه هذه الألقاب لم يكونوا من شيعته، ولم يكونوا يعتبرونه إماماً من قبل الله تعالى، لكنّهم ما استطاعوا أن يتجاهلوا الحقائق التي رأوها فيه.

لقد ذكر المؤرّخون ما يبيّن لنا بعض العلل التاريخية لجملة من هذه الألقاب المباركة:

١ ـ روي عن الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري أنّه قال: كنت جالساً عند رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم والحسين في حجره وهو يلاعبه فقال صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم :(يا جابر، يولد له مولود اسمه عليّ، إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم (سيّد العابدين)

ــــــــــــــ

(١) حياة الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، دراسة وتحليل: ٣٩٠.

(٢) الفرقان (٢٥) : ٦٣.


فيقوم ولده، ثم يولد له ولد اسمه محمّد، فإن أنت أدركته يا جابر فاقرأه منّي السلام) (١) .

٢ ـ كان الزهري إذا حدّث عن عليّ بن الحسين عليه السلام قال: حدّثني (زين العابدين) عليّ بن الحسين، فقال له سفيان بن عيينة: ولِمَ تقول له زين العابدين؟ قال: لأنّي سمعت سعيد بن المسيب يحدّث عن ابن عباس أنّ رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم قال:(إذا كان يوم القيامة ينادي مناد أين زين العابدين؟ فكأنّي أنظر إلى ولدي عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب يخطر (يخطو) بين الصفوف) (٢) ؟

٣ ـ وجاء عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام أنّه قال:(كان لأبي في مواضع سجوده آثار ناتئة، وكان يقطعها في السنة مرتّين، في كلّ مرة خمس ثفنات، فسمّي ذا الثفنات لذلك) (٣) .

٤ ـ كما جاء عنه عن كثرة سجود أبيه:ما ذكر لله عَزَّ وجَلَّ نعمة عليه إلاّ وسجد، ولا دفع الله عنه سوءً إلاّ وسجد، ولا فرغ من صلاة مفروضة إلاّ وسجد، وكان أثر السجود في جميع مواضع سجوده فسمّي بالسجّاد (٤) .

ــــــــــــــ

(١) إحقاق الحق : ١٢ / ١٣ ـ ١٦، والبداية والنهاية لابن كثير : ٩ / ١٠٦.

(٢) علل الشرائع : ١/٢٦٩، والأمالي : ٣٣١ وعنهما في بحار الأنوار : ٤٦ / ٢ الحديث ١ و ٢.

(٣) علل الشرائع : ١/٢٧٣ ومعاني الأخبار : ٦٥ وعنهما في بحار الأنوار : ٤٦ / ٦.

(٤) علل الشرائع : ١/٢٧٢ وعنه في بحار الأنوار: ٤٦/٦ ح ١٠.