انتهى الإمام إلى قرار حاسم وهو ت

انتهى الإمام إلى قرار حاسم وهو ترك الثورة وعدم التسلّح بالنصوص في وجه الحاكمين جهاراً وعلانية إلاّ إذا اطمأن إلى قدرته على تجنيد الرأي العام ضدّ أبي بكر وصاحبيه، وهذا ما أخذ يحاوله عليّ في محنته آنذاك، فبدأ يطوف[1] سِرّاً على زعماء المسلمين ورجالات المدينة ، يعظهم ويذكّرهم ببراهين الحقّ وآياته ، وإلى جانبه قرينته تعزّز موقفه وتشاركه في جهاده السرّي، ولم يكن يقصد بذلك التطواف إنشاء حزب يتهيّأ له القتال به، لأنّنا نعرف أنّ عليّاً كان له حزب من الأنصار هتف باسمه ، وحاول الالتفاف حوله،وإنّما أراد أن يمهّد بتلك المقابلات لإجماع الناس عليه.



وهنا تجيء مسألة فدك لتحتلّ الصدارة في السياسة العلوية الجديدة، فإنّ الدور الفاطمي الذي رسم هارون النبوّة خطوطه بإتقان كان متّفقاً مع ذلك التطواف الليلي في فلسفته وجديراً بأن يقلب الموقف على الخليفة وينهي خلافة الصدِّيق كما تنُهى القصة التمثيلية ، لا كما يقوّضُ حكمٌ مركّزٌ على القوّة والعدّة.



وكان الدور الفاطمي يتلخّص في أن تطالب الصدِّيقة الزهراء (عليها السلام) أبا بكر بما انتزعه منها من أموال، وتجعل هذه المطالبة وسيلةً للمناقشة في المسألة الأساسية وهي مسألة الخلافة، وإفهام الناس بأنّ اللحظة التي عدلوا فيها عن عليّ (عليه السلام) إلى أبي بكر كانت لحظة هوس وشذوذ[2]، وأنّهم بذلك أخطأوا وخالفوا كتاب ربّهم ووردوا غير شربهم[3].



ولمّا اختمرت الفكرة في ذهن فاطمة، اندفعت لتصحّح أوضاع الساعة، وتمسح عن الحكم الإسلامي ـ الذي وضعت قاعدته الاُولى في السقيفة ـ الوحل الذي تلطّخ به، عن طريق اتّهام الخليفة الحاكم بالخيانة السافرة والعبث بكرامة القانون، واتّهام نتائج المعركة الانتخابية التي خرج منها أبو بكر خليفةً بمخالفة الكتاب والصواب[4].



وقد توفّرت في المقابلة الفاطمية ناحيتان لاتتهيَّئان للإمام فيما لو وقف موقف قرينته:



إحداهما : إنّ الزهراء أقدر منه بظروف فجيعتها الخاصّة ومكانتها من أبيها ، على استثارة العواطف ، وإيصال المسلمين بسلك من كهرباء الروح بأبيها العظيم صلوات الله عليه وأيّامه الغرّاء، وتجنيد مشاعرهم لقضايا أهل البيت .



والاُخرى : إنّها مهما تتّخذ لمنازعتها من أشكال فلن تكتسب لون الحرب المسلّحة التي تتطلّب زعيماً يهيمن عليها ما دامت امرأة، وما دام هارون النبوّة في بيته محتفظاً بالهدنة التي أعلنها حتّى تجتمع الناس عليه، ومراقباً للموقف ليتدخّل فيه متى شاء ، متزعّماً للثورة إذا بلغت حدّها الأعلى أو مهدّئاً للفتنة إذا لم يتهيّأ له الظرف الذي يريده ، فالحوراء فاطمة (عليها السلام) بمقاومتها إمّا أن تحقّق انتقاضاً إجماعياً على الخليفة، وإمّا أن لا تخرج عن دائرة الجدال والنزاع ولا تجرّ إلى فتنة وانشقاق .



إذن فقد أراد الإمام صلوات الله عليه أن يُسْمِع الناس يومئذ صوته من فم الزهراء، ويبقى هو بعيداً عن ميدان المعركة ينتظر اللحظة المناسبة للاستفادة منها ، والفرصة التي تجعل منه رجل الموقف ، وأراد أيضاً أن يقدّم لاُمّة القرآن كلّها في المقابلة الفاطمية برهاناً على بطلان الخلافة القائمة، وقد تمّ للإمام ما أراد حيث عبّرت الزهراء صلوات الله عليها عن الحقّ العلويّ تعبيراً واضحاً فيه ألوان من الجمال والنضال .



وتتلخّص المعارضة الفاطمية في عدّة مظاهر :



الأوّل : إرسالها مَن ينازع أبا بكر في مسائل الميراث ويطالب بحقوقها[5] وهذه هي الخطوة الاُولى التي انتهجتها الزهراء صلوات الله عليها تمهيداً لمباشرتها للعمل بنفسها .



الثاني : مواجهتها بنفسها له في اجتماع خاصّ[6] وقد أرادت بتلك المقابلة أن تشتدّ في طلب حقوقها من الخمس وفدك وغيرهما، لتعرف مدى استعداد الخليفة للمقاومة .



الثالث : خطبتها في المسجد بعد عشرة أيام من وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) كما في شرح النهج[7] .



الرابع : حديثها مع أبي بكر وعمر حينما زاراها بقصد الاعتذار منها، وإعلانها غضبها عليهما، وأنّهما أغضبا الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) بذلك[8].



الخامس : خطابها الذي ألقته على نساء المهاجرين والأنصار حين اجتماعهنّ عندها[9] .



السادس : وصيّتها بأن لا يحضر تجهيزها ودفنها أحد من خصومها[10] وكانت هذه الوصية الإعلان الأخير من الزهراء عن نقمتها على الخلافة القائمة.



وقد انحسرت الحركة الفاطمية بمعنىً ونجحت بمعنىً آخر ، انحسرت لأنّها لم تُطِح بحكومة الخليفة في زحفها الأخير الخطير الذي قامت به في اليوم العاشر من وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) .



ولا نستطيع أن نتبيّن الاُمور التي جعلت الزهراء تخسر المعركة ، غير أنّ الأمر الذي لا ريب فيه أنّ شخصيّة الخليفة من أهمّ الأسباب التي أدّت إلى فشلها، لأنّه من أصحاب المواهب السياسية ، وقد عالج الموقف بلباقة ملحوظة نجد لها مثالاً، فيما أجاب به الزهراء من كلام وجّهه إلى الأنصار في خطاب بعد انتهائها من خطبتها في المسجد .



فبينما هو يذوب رقّة في جوابه للزهراء وإذا به يطوي نفسه على نار متأجّجة تندلع بعد خروج فاطمة من المسجد، في أكبر الظنّ، فيقول : ما هذه الرِّعة إلى كلّ قالة إنّما هو ثعالة شهيده ذنبه[11] ـ وقد نقلنا الخطاب كاملاً فيما سبق ـ فإنّ هذا الانقلاب من اللين والهدوء إلى الغضب الفائر يدلّنا على مقدار ما اُوتي من سيطرة على مشاعره وقدرته على مسايرة الظرف وتمثيل الدور المناسب في كلّ حين.



ونجحت معارضة الزهراء لأنّها جهّزت الحقّ بقوّة قاهرة، وأضافت إلى طاقته على الخلود في ميدان النضال المذهبي طاقة جديدة ، وقد سجّلت هذا النجاح في حركتها كلّها وفي محاورتها مع الصدِّيق والفاروق عند زيارتهما لها بصورة خاصّة، إذ قالت لهما : أرأيتكما إن حدّثتكما حديثاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) تعرفانه وتفعلان به ؟ فقالا : نعم ، فقالت : «نشدتكما الله، ألم تسمعا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : « رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي ، فمن أحبّ فاطمة فقد أحبّني، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني »[12] قالا : نعم سمعناه من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قالت : « فإنّي اُشْهِدُ الله وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني ولئن لقيت النبيّ (صلى الله عليه وآله) لأشكونّكما عنده »[13].



ويصوّر لنا هذا الحديث مدى اهتمامها بتركيز الاعتراض على خصمَيْها ومجاهرتهما بغضبها ونقمتها، لتخرج من المنازعة بنتيجة هي الفوز المؤكّد في حساب العقيدة والدين، وأعني بها أنّ الصدِّيق قد استحقّ غضب الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) بإغضابها ، وآذاهما بأذاها لأنّهما يغضبان لغضبها ويسخطان لسخطها بنصّ الحديث النبويّ الصحيح، فلا يجوز أن يكون خليفة لله ورسوله[14]، وقد قال الله تبارك وتعالى :



(... وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤذُواْ رَسُولَ اللهِ وَلاَ أن تَنكِحُواْ أَزْواجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللهِ عَظِيماً )[15] .



( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً)[16] .



( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُم عَذابٌ أَلِيمٌ )[17] .



( يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّواْ قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ )[18] .



( وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هوى )[19] .