إنّ الحركة التصحيحية التي قام به

إنّ الحركة التصحيحية التي قام بها الإمام عليّ والزهراء (عليهما السلام) لإعادة الخلافة الإسلامية عن جادة الانحراف اكتسبت ألواناً وصيغاً متعدّدة، وتزعّمت الزهراء الجبهة السياسية العلنيّة، وتنوّعت أساليب المطالبة بحقّ خلافة الإمام عليّ (عليه السلام)، ومنها المطالبة بفدك، وحتى هذه المطالبة تلوّنت بعدة ألوان .



والباحث الموضوعي في دراسة خطوات الصراع وتطوّراته والأشكال التي اتّخذها لا يرى أنّ المسألة مسألة مطالبة بأرض ، بل يتجلّى له منها مفهوم أوسع من ذلك ينطوي على غرض طموح يبعث إلى الثورة ، ويهدف إلى استرداد حقّ مغتصب ومجد عظيم ، وتصحيح مسيرة اُمّة انقلبت على أعقابها، وقد أحسّ الحزب الحاكم بذلك، فتراه قد بذل قصارى جهده في التحدّي والثبات على موقفه .



ولو فحصنا أيّ نصّ من النصوص التأريخية المتعلّقة بفدك فلا نجد فيها نزاعاً مادياً أو اختلافاً حول فدك بمعناها الضيّق وواقعها المحدود ، بل هي الثورة على أساس الحكم المنحرف والصرخة التي أرادت لها الزهراء (عليها السلام) أن تصل إلى كلّ الآفاق، لتقتلع بها الحجر الأساسي الذي بُني يوم السقيفة .



ويكفينا لإثبات ذلك أن نلقي نظرةً فاحصةً على خطبة الزهراء في المسجد أمام الخليفة وبين حشود المهاجرين والأنصار ، فإنّها تناولت في أغلب جوانبها امتداح الإمام عليّ (عليه السلام) والثناء على مواقفه الجهادية الخالصة لخدمة الإسلام، وتسجيل الحقّ الشرعي لأهل البيت (عليهم السلام) الذين وصفتهم بأنّهم الوسيلة إلى الله في خلقه وخاصته ومحلّ قدسه وحجّته ، وورثة أنبيائه في الخلافة والحكم .



وحاولت الزهراء (عليها السلام) أن تنبّه المسلمين إلى غفلتهم وسوء اختيارهم المرتجل والمتسرّع وانقلابهم على أعقابهم بعد هداهم ، وورودهم غير شربهم الصافي الذي كان يروي ظمأهم ، وإسنادهم أمرهم إلى غير أهله، والفتنة التي سقطوا فيها ، والدوافع التي دفعتهم إلى ترك كتاب الله ومخالفته فيما يحكم به في مسألة الخلافة والإمامة .



فالمسألة إذن ليست مسألة تقسيم ميراث أو قبض نحلة إلاّ بالمقدار الذي يتّصل بموضوع الهدف الأعلى ، وليست مطالبة بعقار أو دار، بل هي في نظر الزهراء قضية إسلام وكفر ، وقضية إيمان ونفاق ، ومسألة نصّ وشورى .



كذلك نجد هذا النفس السياسي الرفيع والواضح في حديثها مع نساء المهاجرين والأنصار حين زيارتهن لها، فقد أوضحت لهنّ أنّ أمر الخلافة انحرف عن مساره الشرعي بإقرار الحزب الحاكم على مسند الحكم، ولم تكن ردّة فعل عاطفية وأحقاد مكنونة وجدت لها متنفّساً، ولو أنهّم وضعوا الأمر حيث أمر الله ورسوله وأعطوا زمام القيادة للإمام (عليه السلام); لبلغوا رضا الله وسعادة الدنيا والآخرة .



وأكبر الظنّ أنّ الصدّيقة الزهراء (عليها السلام) كانت تجد في شيعة الإمام(عليه السلام) وصفوة أصحابه الذين لم يكونوا يشكّون في صدقها أبداً من يؤيّد بشهادته على شهادة الإمام عليّ (عليه السلام) وتكتمل البيّنة التي طالب بها الخليفة لإثبات أنّ فدك للزهراء (عليها السلام).



إنّ هذا خير دليل على أنّ الهدف الأعلى للزهراء الذي كانوا يعرفونه جيداً ليس هو إثبات النحلة أو الميراث، بل القضاء على نتائج السقيفة، وهذا لا يحصل بإقامة البيّنة في موضوع فدك، لأنّ الأمر سينحصر عند ذاك بقضية محدودة، بل بأن تقدّم البيّنة لدى الناس جميعاً على أنّهم ضلّوا وانحرفوا عن سواء السبيل، عسى أن يرتدّ إليهم رشدهم ويحسن اختيارهم ويصحّحوا مسيرتهم .



ونعلم أيضاً مقدار تخوّف السلطة الحاكمة وإصرارها على موقفها ومحاولتها الاستمرار في تضليل الجماهير حين نسمع ردّ الخليفة بعد أن انتهت الزهراء (عليها السلام) من خطبتها وخرجت من المسجد ، وهذا يلقي الضوء على أساس منازعة الزهراء له ، فإنّه فهم أنّ احتجاج الزهراء لم يكن حول الميراث أو النحلة ، وإنّما كان حرباً سياسية وتظلّماً لحقّ الإمام عليّ (عليه السلام) وإظهاراً لدوره العظيم في وجوده في الاُمة، والذي شاء الخليفة وأصحابه أن يبعدوه عن المقام الطبيعي له في دنيا الإسلام.



فنجد أنّ الخليفة هجم في ردّه على الإمام عليّ (عليه السلام) فوصفه بأنّه ثعالة وأنّه مربّ لكلّ فتنة وأنّ فاطمة ذنبه التابع له، ولم يتطرّق في ردّه على موضوع الميراث أو النحلة قليلاً أو كثيراً .



وإذا عرفنا أنّ الزهراء نازعت الخليفة في أمر الميراث بعد اغتصابه لفدك، لأنّ الناس لم يعتادوا أن يستأذنوا الخليفة في قبض مواريثهم أو في تسليم المواريث إلى أهلها، فكانت تجري معاملاتهم بينهم بيسر دون تكلّف ، فلم تكن فاطمة (عليها السلام) في حاجة إلى مراجعة الخليفة، ولم تكن لتأخذ رأيه وهو الظالم المنتزي على الحكم في رأيها، فالمطالبة بالميراث لابدّ أنّها كانت ذات صدىً لما قام به الخليفة من تعدّي على حقّ الزهراء في التركة والاستيلاء عليها.



وإذا عرفنا أيضاً أنّ الزهراء لم تطالب بحقوقها قبل أن تغتصب منها تجلّى بوضوح لدينا أنّ ظروف المطالبة كانت مشجّعة كلّ التشجيع للمعارضين على أن يغتنموا مسألة الميراث مادةً خصبةً للانطلاق منها لمقاومة الخليفة غير الشرعي باُسلوب سلمي كانت تفرضه المصالح العليا للإسلام يومئذ، ومن الممكن إتّهامه بالغصب والتلاعب بقواعد الشريعة والاستخفاف بكرامة القانون .