حينما قرّرت السلطة أن تمنع فاطمة

حينما قرّرت السلطة أن تمنع فاطمة (عليها السلام) فدكاً وبلغها ذلك قرّرت الاعلان عن مظلوميتها بالذهاب إلى المسجد وإلقاء خطاب مهم في الناس، وسرى الخبر في المدينة أنّ بضعة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وريحانته تريد أن تخطب في الناس في مسجد أبيها (صلى الله عليه وآله) وهزّ الخبر أرجاء المدينة واحتشد الناس في المسجد ليسمعوا هذا الخطاب المهم .



وروى لنا عبدالله بن الحسن عن آبائه (عليهم السلام) صورةً من هذا الخطاب قائلاً : إنّه لمّا أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة (عليها السلام) فدكاً وبلغها ذلك ، لاثَتْ خِمارَها على رأسها ، واشتملت بِجلبابها ، وأقبلتْ في لمّة من حَفَدَتِها ونساء قومها ، تَطَأ ذُيولَها ، ما تَخْرِمُ مشيَتُها مشْيَةَ رسول الله (صلى الله عليه وآله)[1] حتى دخلت على أبي بكر وهو في حَشْد من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فَنبِطَتْ دونها مُلاءة[2] ، فجلستْ ثمّ أَنَّتْ أنَّةً أجهش القوم لها بالبكاء ، فارتجَّ المجلِسُ ، ثمّ أمْهَلَتْ هُنَيْئَةً حتّى إذا سكن نَشيج القوم وَهَدَأَتْ فَوْرَتُهُم; افتتحت الكلام بحمد الله والثّناء عليه والصلاة على رسوله (صلى الله عليه وآله) فعاد القوم في بكائهم، فلمّا أمسكوا عادت في كلامها ، فقالت (عليها السلام) :



«الحمد لله على ما أنعم ، وله الشُّكر على ما ألهم ، والثناء بما قدّم مِن عمومِ نِعَم ابتدأها ، وسُبوغِ آلاء أسْداها ، وتَمامِ مِنَن أوْلاها ، جَمَّ عن الاِحصاء عددُها ، ونأى عن الجزاءِ أمَدُها ، وتفاوَتَ عَنِ الاِدْراك أَبَدُها ، وَنَدَبَهُمْ لاستزادَتِها بالشُكرِ لاتّصالها، وَاسْتحْمَدَ إلى الخلائِقِ بإجزالها ، وثنى بالندب إلى أمثالها ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، كلمةً جَعَلَ الاِخلاصَ تأويلَها ، وَضَمَّنَ القلوبَ مَوْصولَها ، وأنارَ في التفكُّرِ معقولَها .



الممتنعُ من الأبصار رؤيَتُه ، ومن الألسُنِ صفَتُه ، ومن الأوْهامِ كيفيّتُهُ ، ابتدع الأشياء لا من شيء كان قَبْلها ، وأنشأها بلا احتذاءِ أمْثِلَة امتَثَلها ، كَوَّنها بقدرته ، وذَرَأَها بمشِيَّتهِ ، من غير حاجة منه إلى تكوينها ، ولا فائدة له في تصويرِها ، إلاّ تثبيتاً لحكمته ، وتنبيهاً على طاعته ، وإظهاراً لقدرته وتعبُّداً لبريّته وإعزازاً لدعوته ، ثمّ جعل الثواب على طاعته ، ووضع العقاب على معصيته ، ذِيادة[3] لعباده عن نقمته، وحياشة[4] لهم إلى جنّته .



وأشهد أنّ أبي محمّداً عبده ورسوله اختاره قبل أن أرسله ، وسمّاه قبل أن اجتباه ، واصطفاه قبل أن ابتعثه ، إذ الخلائق بالغيب مكنونة ، وبِستر الأهاويل مصونة ، وبنهاية العدم مقرونة ، علماً من الله تعالى بمآيل الاُمور ، وإحاطةً بحوادث الدهور ، ومعرفةً بمواقع الاُمور ، ابتعثه الله إتماماً لأمره ، وعزيمةً على إمضاء حكمه ، وإنفاذاً لمقادير حتمه ، فرأى الاُمم فِرَقاً في أديانها ، عُكَّفاً على نيرانها ، عابدةً لأوثانها ، منكرةً لله مع عِرفانِها .



فأَنارَ اللهُ بأبي محمّد (صلى الله عليه وآله) ظُلَمَها ، وكَشَفَ عن القلوب بُهَمَها[5] ، وجَلى عن الأبصارِ غُمَمَها ، وقام في النّاس بالهداية ، فأنقذهم من الغواية ، وبَصّرَهُم من العَماية ، وهَداهُم إلى الدين القويم ، ودعاهم إلى الطريق المستقيم .



ثمّ قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار ، ورغبة وإيثار ، فمحمّد (صلى الله عليه وآله) من تعب هذه الدار في راحة ، قد حُفَّ بالملائكة الأبرار ، ورضوانِ الربّ الغفّار ، ومجاورة الملك الجبّار ، صلّى الله على أبي نبيّه ، وأمينه ، وخيرته من الخلق وصفيّه ، والسّلام عليه ورحمة الله وبركاته» .



ثمّ التفتت إلى أهل المجلس وقالت : «أنتم عِبادَ الله نصب أمرِه ونهيِه ، وحَمَلَة دينهِ وَوَحْيهِ ، واُمناء الله على أنفسكم ، وبُلَغاؤه إلى الاُمم ، زعيمُ حق له فيكم ، وعهدٌ قدّمه إليكم ، وبقيّةٌ استخلفها عليكم ، كتاب الله الناطق ، والقرآن الصادق ، والنور الساطع ، والضياء اللامع ، بيّنةً بصائره ، منكشفةً سرائره ، منجلية ظواهره ، مغتَبِطَةً به أشياعُه ، قائداً إلى الرضوان اتّباعه ، مؤدّ إلى النّجاة استماعُه ، بِه تُنال حججُ اللهِ المُنَوَّرَة ، وعزائِمُهُ المُفَسَّرَةُ، ومحارِمُه المحذّرة ، وبيّناتُه الجالية ، وبراهينُه الكافية ، وفضائله المندوبة ، ورُخَصُه الموهوبة ، وشرائعهُ المكتوبة .



فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكيةً للنفس، ونماءً في الرزق، والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحج تشييداص للدين، والعدل: تنسيقاً للقلوب، وطاعتنا نظاماً للملّة، وإمامتنا أماناً للفرقة، والجهاد عزّاً للإسلام، والصبّر معونة على التسيجاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة، وبرّ الوالدين وقاية من السخط، وصلة الأرحام منسأة في العمر ومنماة للعدد، والقصاص حقناً للدماء، والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة، وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس، والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس، واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة، وترك السرقة إيجاباً للعفّة، وحرّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية.



فاتّقوا الله حقّ تقاته ، ولا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون ، وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه ، فإنّه إنّما يخشى اللهَ من عباده العلماء .



ثم قالت: أيّها الناس اعلموا أنّي فاطمة وأبي محمد، أقول عوداً وبدواً، ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)[6] فإن تَعْزوهُ وتعرفوه تَجِدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابنِ عَمّي دون رجالِكم ، وَلَنِعْمَ المعزّي[7] إليه ، فبلّغ الرسالة صادعاً بالنذارة[8] مائلاً عن مَدْرَجَةِ المشركين ، ضارباً ثَبَجَهُم[9] آخِذاً بأكظامِهِم[10] داعياً إلى سبيلِ ربِّهِ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة ، يَجِفُ الأصنامَ وَينكُثُ الهام ، حتّى انهزم الجمع وولّوا الدبر ، حتّى تَفَرّى اللّيلُ عن صُبْحِه ، وأسْفَرَ الحَقُّ عن مَحْضِه ، ونَطَقَ زعيمُ الدّين، وخَرَسَت شَقاشِقُ الشَياطين ، وطاح وشيظُ[11] النِفاقِ ، وانْحَلَّتْ عُقَدُ الكفرِ والشِقاق ، وفُهْتُم[12] بكلمة الإخلاص في نَفَر من البيض الخِماصِ[13] وكنتم على شَفا حُفرة من النار ، مِذقَةَ[14]الشارِب ونهزَة[15] الطامع ، وقَبْسَةَ العَجْلان ، ومَوْطِئَ الأقدام تشَرْبَونَ الطَرَق[16] ، وتَقتْاتونَ القِدّ[17]أذِلّة خاسئين ، تخافون أن يتخطّفكم النّاسُ مِن حَوْلِكم ، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد (صلى الله عليه وآله) ، بعد اللتيا والّتي ، وبعد أن مُنِي بِبُهْمِ[18] الرجال وذؤبانِ العَرَب ، ومَرَدَةِ أهلِ الكتاب ، كلّما أوقدوا ناراً للحرب أَطفأها الله ، أو نَجَمَ قَرْنُ الشيطان[19] ، أو فَغَرَتْ فاغِرةٌ[20] من المشركين قَذَفَ أخاهُ في لَهواتِها، فلا يَنكَفِئ حَتّى يَطأَ جَناحَها بأَخْمصِه[21] ، ويُخْمِدَ لَهَبَها بِسَيْفِه ، مَكدوداً في ذاتِ الله ، مجتهداً في أمر الله ، قريباً من رسول الله ، سيّداً في أولياء الله ، مشمِّراً ناصحاً ، مُجِدّاً كادِحاً ، لا تأخُذهُ في الله لومةُ لائم ، وأنتم في رفاهيّة من العيش، وادِعون فاكِهون آمِنون ، تَتَربَّصوَن بِنا الدوائرَ[22]وتَتَوكَّفونَ الأخبْارَ[23] وتَنْكِصونَ عِنْدَ النِزالِ ، وتَفِرّونَ مِنَ القِتال .



فلما اختار الله لنبيه (ص) دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ظهر فيكم حسكة[24] النِفاق، وسمُلَ جِلبابُ الدين ، ونَطَقَ كاظِمُ[25] الغاوين ، وَنَبَغَ خامِلُ الأَقَلّينَ ، وهَدَرَ فَنيقُ[26] المُبطِلين ، فَخَطَرَ في عَرَصاتِكم ، وَأطْلَعَ الشَيْطانُ رأسَه مِن مَغرِزِه[27] هاتِفاً بِكُم فَأَلْفاكُم لِدَعْوَتهِ مُستَجيبين ، ولِلغِرَّةِ فيه ملاحِظينَ ، ثمّ اسْتَنْهَضَكُم فَوَجَدَكُم خِفافاً ، وأحْشَمَكُم[28] فَألفاكم غِضاباً ، فَوَسَمْتُم غَيْرَ إبِلِكُم ، وَوَرَدْتُم غَيْرَ مَشْرَبِكُم ، هذا والعهدُ قَريبٌ ، والكَلْمُ رَحيبٌ، والجُرْحُ لمّا يَنْدَمِلْ ، والرّسولُ لَمّـا يُقْبَرْ ، إبتداراً[29] زَعَمْتُم خَوْفَ الفِتْنَةِ ( ألا في الفِتْنَةِ سَقَطوا وإنّ جَهَنّم لَـمُحيطَةٌ بالكافرين )[30] .



فهيهات منكم، وكيف بكم، وأنى تؤفكون، وكتاب الله بين أطهركم، أموره ظاهرة، وأحكامه زاهرة، وأعلامه باهرة، وزواجره لايحة، وأوامره واضحة، وقد خلفتموه وراء طهوركم، أرغبة عنه تريدون؟ أم بغيره تحكمون؟ (بئس للظالمين بدلا)[31]( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبَلَ منه وهو في الآخرة من الخاسرين )[32] .



ثم لم تلبثوا إلاّ ريث أن تسكُن نفرتها[33] ، ويَسلُس[34] قِيادُها ، ثمّ أخذتُم تُورونَ وَقْدَتَها ، وتُهَيِّجونَ جَمْرَتَها ، وتَستَجيبونَ لِهِتافِ الشيطانِ الغَوِيّ ، وإطفاءِ أنوارِ الدّينِ الجَليّ، وإهمالِ سُنَنِ النَبيّ الصَفِيّ (صلى الله عليه وآله) ، تَشْرَبونَ حَسْواً في ارتِغاء[35] وَتَمْشوُن لأهِلهِ وَوُلْدِهِ في الخَمَرَةِ والضَرّاء[36] ونصبر منكم على مِثْلِ حَزِّ المُدى وَوَخْزِ السِنان في الحَشا ، وأنتم الآنَ تَزْعَمون : أن لا إرْثَ لَنا ، أفَحُكْمَ الجاهِلِيَّةِ تَبْغونَ ؟ ومَن أحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكماً لِقَوْم يوقِنون ! أفلا تعلمون ؟ ! بلى قَد تَجلّى لكم كالشمسِ الضاحِيَةِ : أنـّي ابنَتُهُ ، أيُّها المسلمون أاُغْلَبُ على إرْثي ؟.



يا بن أبي قحافة أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فريا! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول: (وورث سليمان داود)[37] ، وقال فيما اقتَصَّ مِن خَبَرِ يَحيى بنِ زَكَرِيّا إذ قال: ( فَهَبْ لي مِن لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُني وَيَرِثُ مِن آلِ يَعْقوبَ )[38] وقال : ( وأُولو الأرحامِ بَعْضُهُم أولى بِبَعْض في كتابِ اللهِ )[39] وقال : ( يُوصيكُمُ اللهُ في أوْلادِكُم لِلذّكَرِ مثلُ حظِّ الاُنثَيَين )[40] وقال : ( إن ترَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ للوالِدَيْنِ والأقرَبينَ بالمَعروفِ حَقّاً على المتّقين )[41] .



فَدونَكَها مخْطومَةً مرحولةً[42] تَلقْاكَ يَوْمَ حَشْرِكَ ، فَنِعْم الحَكَمُ اللهُ ، والزَعيمُ مُحَمَّدٌ(صلى الله عليه وآله) ، والمَوْعِدُ القِيامَةُ ، وَعِنْدَ السّاعِة يَخْسَرُ المُبْطِلونَ ، ولا ينفَعُكُم إذ تَنْدمونَ ، ولِكُلِّ نَبأ مُسْتَقرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمونَ مَن يَأتيهِ عذابٌ يُخزيه وَيَحِلُّ عليه عَذابٌ مُقيمٌ» .



ثم رمت بطرفها نحو الأنصار فقالت: ((يا معشر النقيبة[43] وأعْضادَ المِلَّةِ وحَضَنَةَ الاِسلام ، ما هذِهِ الغَميزَةُ[44] في حَقّي والسِنَةُ عَن ظُلامَتي ؟ أما كانَ رسَولُ

اللهِ(صلى الله عليه وآله) أبي يقول : « المرءُ يُحْفَظُ في وُلْدِهِ » ؟ سَرْعانَ مَا أحْدَثْتُم ، وَعَجْلانَ ذا إهالَة[45] ولَكُم طَاقَةٌ بما اُحاوِلُ، وَقُوَّةٌ على ما أطْلُبُ واُزاوِلُ، أتقولونَ ماتَ محمّد (صلى الله عليه وآله)؟ فَخَطْبٌ جَليلٌ اسْتَوسَعَ وَهْنُه وَاسْتَنْهَرَ[46] فَتْقُهُ وَانْفَتَقَ رَتْقُهُ[47]، وَاظْلَمَّتِ الأرْضُ لِغَيْبَتِهِ، وكُسِفَتِ الشَمسُ وَالقْمَرُ، وانْتَثَرَتِ النجومُ لِمُصيبَتِهِ، وأَكْدَتِ الآمالُ، وَخَشَعَتِ الجِبالُ، واُضيعَ الحَريمُ، واُزيلَتِ الحُرْمَةُ عِنْدَ ممَاتِهِ، فَتِلكَ وَاللهِ النازِلةُ الكُبْرى، والمُصيبَةُ العُظمى، لامِثْلُها نازِلَةٌ، ولا بائِقَةٌ[48] عاجِلَة، أعْلَنَ بها كتابُ اللهِ جَلَّ ثَناؤُه في أفْنِيَتِكُمْ، وَلِقَبْلِهِ ما حَلَّ بِأنبياءِ اللهِ وَرُسُلِهِ حُكْمٌ فَصْلٌ، وقَضاءٌ حَتْمٌ: (وما مُحمَّدٌ إلاّ رَسولٌ قد خَلَتْ مِن قَبلِهِ الرُسُلُ أفإنْ ماتَ أو قُتِلَ انقَلَبْتُم على أعْقابِكُم وَمَنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ فلنَ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيْجزي اللهُ الشاكرينَ)[49].



إيهاً بني قيلة [50] أاُهْضَمُ تُراث أبي؟ وأنتم بِمرَأىً منّي ومَسْمَع، ومُنْتَدىً[51] ومَجْمَع، تُلْبِسُكُمُ الدَعْوَةُ، وتشملكم الحيَرَةُ، وأنتم ذوو العدد والعُدّة، والأداة والقوّة، وعندكم السلاح والجُنَّة، توافيكم الدَعْوَةُ فلا تجيبون، وتأتيكُمُ الصَرْخَةُ فلا تغيثونَ، وأنتم مَوْصوفونَ بالْكِفاح، مَعروفونَ بِالخَيْرِ والصّلاح، والنُخْبَةُ الّتي انْتُخِبَتْ، والخيرةُ التي اختيرت لنا أهْلَ البَيْتِ، قاتَلْتُمُ العَرَبَ، وتَحَمَّلْتُم الكَدَّ وَالتَعَبَ، وناطَحْتُم الاُممَ وكافَحْتُم البُهَمَ، لا نَبْرَحُ أو تَبْرَحون، نأمُرُكُم فَتَأْتَمِرونَ حتّى إذا دارَتْ بِنا رَحى الإسلام، ودَرَّ حَلَبُ الأَيامِ، وَخَضَعَتْ ثَغْرَةُ الشِرك، وَسَكَنَتْ فَوْرَةُ الإفك، وَخَمَدَتْ نيرانُ الكُفْرِ، وَهَدَأَتْ دَعْوَةُ الهَرَجِ، وَاسْتَوْسَقَ نِظامُ الدّين، فأنّى حزتم بعد البيان ؟[52] وأسررْتم بعد الاِعْلانِ؟ ونَكَصْتُم بَعْدَ الاِْقدام؟ وأشْرَكتم بعد الإيمانِ؟.



بؤساً لقوم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، وهموا بإخراج الرسول، وهم بدأوكم أوّل مرّة، أتخشونهم فالله أحقُّ أن تخشوه إن كنتم مؤمنين، ألا وقد أرى أن قد أخذتم إلى الخفض[53] وأبعَدْتُم مَن هو أحقُّ بالبَسطِ والقَبض، وخَلَوْتُم بالدَعَة[54] ونَجَوْتُم بالضّيق من السعة، فَمَجَجْتُم[55] ما وَعَيْتُم، ودَسَعْتُم[56] الذي تَسَوَّغْتُم[57] فإن تكفروا أنتم ومَن في الأرض جَميعاً فإنّ الله لغنيٌ حَميدٌ[58].



ألا وقد قلت ما قلت هذا على معرفة مني بالجذلة[59] الّتي خامَرَتْكُم[60] والغَدْرَةِ التي استشْعَرَتْها قلوبُكُم، ولكنّها فَيْضَةُ النَفْسِ[61] ونَفْثَةُ الغَيْظ، وخَوَرُ القَناة[62] وَبثَّةُ الصَدْر[63] وتَقْدِمَةُ الحُجَّةِ، فَدونكموها فاحتَقِبوها[64] دَبَرَةَ[65] الظَهر، نَقِبَةَ الخُفِّ[66] باقيةَ العارِ، موسومَةً بِغَضَبِ الجَبّار وشنارِ الأَبَدِ، موصولةً بنارِ الله الموقَدة، الّتي تطّلع على الأفئدة، فبعَيْنِ اللهِ ما تَفْعَلونَ (وسيعلمُ الذين ظلموا أيَّ منقلَب ينقلبون)[67]، وأنا ابنةُ نَذير لكم بَين يَدَي عذاب شديد فاعملوا إنّا عامِلونَ، وانتظِروا إنّا منتَظِرونَ».



وبعد هذا لجأ أبو بكر الى اُسلوب التضليل والاستغفال في محاولة منه لتدارك الموقف فقال: يا بنت رسول الله، لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفاً كريماً رؤوفاً رحيماً، على الكافرين عذاباً أليماً وعقاباً عظيماً، إن عزوناه[68] وجدناه أباك دون النّساء، وأخا إلفِك دون الأخلاّء[69] آثره على كلّ حميم، وساعده في كلّ أمر جسيم، لا يُحبّكُم إلاّ سعيد، ولا يُبغضكم إلاّ شقيّ بعيد، فأنتم عترة رسول الله الطيّبون، الخيرة المنتجبون، على الخير أدلّتنا، وإلى الجنّة مسالكنا.



وأنت يا خِيَرَةَ النساء وابنة خير الأنبياء صادقةٌ في قولك، سابقة في وفور عقلك، غير مردودة عن حقّك، ولا مصدودة عن صِدْقِكِ، والله ما عَدَوْتُ رأْىَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا عملتُ إلاّ بإذنِهِ، والرائدُ لا يكذب أهلَه، وإنّي اُشهد الله وكفى به شهيداً أنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث ذهباً ولا فضّةً ولا داراً ولا عقاراً وإنّما نورّث الكتاب والحكمة والعلم والنبوّة، وما كان لنا من طعمة فلولىّ الأمر بَعْدَنا أن يحكم فيه بحكمه» وقد جعلنا ما حاولتِهِ في الكراع[70] والسِلاح يقاتل بها المسلمون ويجاهدون الكفّار، ويجالدون[71] المَرَدَة الفُجّار، وذلك بإجماع من المسلمين[72]، لم أنفرد به وحدي، ولم أستبد بما كان الرأي عندي وهذه حالي ومالي، وهي لك وبين يديك، لا تُزوى[73] عنك، ولا تُدَّخَرُ دونَكِ وإنّك وأنتِ سيّدة اُمّة أبيك، والشجرة الطيّبة لبنيك، لا ندفعُ ما لَكِ من فضلك، ولا يوضع في فرعك وأصلِك، حكمُكِ نافذٌ فيما ملكت بيداي، فهل ترين أن اُخالفَ في ذلك أباك (صلى الله عليه وآله)؟



فقالت (عليها السلام): «سبحان الله ما كان أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن كتاب الله صادِفاً[74] ولا لأحكامه مخالِفاً! بل كان يتّبع أثره، ويقفو سُوَرَه، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالا عليه بالزُور، وهذا بَعدَ وَفاته شبيه بما بُغي له من الغوائل[75] في حَياتِهِ، هذا كتاب الله حَكَماً عَدْلا، وناطِقاً فَصْلا يقول: (يرثني ويرث من آل يعقوب)[76] ويقول: (وورثَ سُلَيْمانُ داود)[77] وبيّن عزّ وجلّ فيما وزّع من الأقساط، وشرع من الفرائض والميراث، وأباح من حظّ الذُكران والإناث ما أزاح به علّة المبطلين، وأزال التظنّي والشبهات في الغابرين، كلاّ بل سوّلتْ لكم اَنْفُسُكُم أمراً فصَبْرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون».



فقال أبو بكر : صدق الله ورسوله، وصدقت ابنته، أنت معدن الحكمة، وموطن الهدى والرحمة، وركن الدين، وعين الحجّة، لا أُبعِدُ صَوابَكِ، ولا اُنكِرُخطابك، هؤلاء المسلمون بيني وبينك، قلّدوني ما تقلّدت، وباتّفاق منهم أخذت ما أخذت غيرَ مكابِر ولا مستبدّ، ولا مستأثر، وهم بذلك شهود.



وهذه اُولى محاولة لأبي بكر استطاع فيها من إخماد عواطف المسلمين وحرف رأيهم عن مناصرة الزهراء (عليها السلام) من خلال التضليل والتظاهر بالصلاح واتّباع سنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله).



ثُمَّ التفتت فاطمة (عليها السلام) إلى الناس وقالت : «معاشِرَ المسلمين المسرِعَةَ إلى قيلِ الباطلِ، المُغْضِيَةَ[78] على الفعلِ القبيحِ الخاسِر، أفلا تتدبّرونَ القُرْآن أم على قلوب أقفالها؟ كلاّ بل ران على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم. فاُخذ بسَمْعِكُم وأبصارِكُم ولبئس ما تَأَوَّلْتُم، وساء ما به أَشَرْتُم، وشرّ ما منهُ اغتَصَبْتُم، لَتَجِدُنَّ واللهِ مَحْمِلَه ثَقيلا، وَغِبَّهُ[79] وَبيلا، إذا كُشِفَ لكُمُ الغِطاءُ وبانَ ما وراءَه[80]الضَرّاءُ، وبَدا لَكُم مِن ربّكم ما لم تكونوا تحتَسبِون (وخَسِرَ هُنالِكَ المُبطِلونَ)[81].



ثم عطفت على قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله) وقالت:



قد كان بعدك أنـــــباءٌ وهنبثــــة[82] لو كنت شاهِدَها لم تكــــــثُرِ الخُطَبُ





إنا فقدناك فقــــد الأرض وابلهـــــــــا وأختلّ قومك فاشهـــــدهم ولا تغــبُ



وكلُّ أهل لــــه قُـــــربىً ومنزِلَــــــــةٌ عِندَ الإلـــــه على الأدنــــــين مُقترِبُ





أبدت رجالٌ لنا نجـــــــوى صـدورهـم لما مضيــــت وحـــــالت دونك الترب



تَجَهَّمَتْنا رجــــــالٌ واستُخِـــــفّ بنــــا لمّا فُقِدْتَ وَكُــــلُّ الأرْضِ مُغْتَصـــــَبُ



وكنت بدراً ونـــــوراً يستضــــــاء به عليك ينــــزل من ذي العـــزّة الكتب



وكـــان جــــبريلُ بالآياتِ يُؤْنِســــُنـــا فَقَدْ فُقِدْتَ وَكُـــــلُّ الخَــــــــيْرِ مُحْتَجبُ



فَلَيْتَ قبلَكَ كـــانَ المَـــــوْتُ صادَفنـــا لمّا مَضَيْتَ وحالتْ دونك الكتب[83]



أنهت الزهراء خطابها وقد أوضحت فيه الحقّ بأجلى صورة، واستجوبت الخليفة وفضحت مخططاته بالأدلّة والبراهين الساطعة المحكمة، وذكرت فضائل الخليفة الحقيقي في الإسلام وكمالاته المطلوبة ، فتوتّر الجوّ وانساق الرأي العام لصالح الزهراء (عليها السلام) وجعلت أبا بكر في زاوية حرجة وأمام طريق مسدود .



قال ابن أبي الحديد : سألت ابن الفارقي مدرّس المدرسة الغربية ببغداد ، وقلت له : أكانت فاطمة صادقة ؟ قال : نعم، قلت : فلِمَ لم يدفع إليها أبو بكر فدكاً وهي عنده صادقة ؟ فتبسّم ثم قال كلاماً لطيفاً مستحسناً : لو أعطاها اليوم فدكاً لمجرد دعواها; لجاءت إليه غداً وادّعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه ولم يمكن الاعتذار والموافقة ، لأنّه يكون قد سجّل على نفسه أنهّا صادقة فيما تدّعي كائناً ما كان من غير حاجة إلى بيّنة وشهود[84] .