حين نتطلّع بإمعان عند دراسة سياسة الحاكمين نجد إضافة إلى
التخطيط لإضعافهم اقتصادياً أنّهم انتهجوا منذ اللحظة الاُولى سياسة معينة تجاه آل
محمد (صلى الله عليه وآله) للقضاء على الفكرة التي أمدَّت الهاشميّين بقوة على
المعارضة كما خنقوا المعارضة نفسها وهي كونهم أقرب الناس لرسول الله (صلى الله عليه
وآله) .
ونستطيع أن نصف هذه السياسة بأنّها تهدف إلى إلغاء امتياز البيت الهاشمي وإبعاد
أنصاره المخلصين له عن المرافق الهامة في جهاز الحكومة الإسلامية يومئذ، وتجريده
عمّا له من الشأن والمقام الرفيع في الذهنية الإسلامية ، وقد يعزو هذا الرأي إلى
عدّة ظواهر تاريخية :
1 ـ سيرة الخليفة وأصحابه مع علي (عليه السلام) التي بلغت من الشدّة أنّ عمر هدّد
بحرق بيته وإن كانت فاطمة فيه ، ومعنى هذا الإعلان أنّ فاطمة وغير فاطمة من
الهاشميّين ليس لهم حرمة تمنعهم عن أن يتّخذ معهم نفس الطريقة التي سار عليها مع
سعد بن عبادة حين أمر الناس بقتله في يوم السقيفة ، ومن صور ذلك العنف وصف الخليفة
لعليّ (عليه السلام) بأنّه مربّ لكل فتنة، وتشبيهه له باُم طحال أحب إلى أهلها
البغي ، وقد قال عمر لعليّ بكل وضوح : إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) منّا
ومنكم .
2 ـ إنّ الخليفة الأول لم يُشرك شخصاً من الهاشميّين في شأن من شؤون الحكم المهمة ،
ولا جعل منهم والياً على شبر من المملكة الإسلامية الواسعة الأطراف مع أنّ نصيب
الاُمويين في ذلك كان عظيماً، ونستطيع أن نفهم بوضوح أنّ هذا الأمر وليد سياسة
متعمدة ، من خلال المحاورة التي جرت بين الخليفة الثاني وابن عباس أظهر فيها تخوّفه
من تولّيه ابن عباس «حمص»، لأنّه يخشى إذا صار الهاشميّون ولاةً على أقطار المملكة
الإسلامية أن يموت وهم كذلك فيحدث في أمر الخلافة ما لا يريد[1] .
3 ـ عزل الخليفة لخالد بن سعيد بن العاص عن قيادة الجيش الذي وجّهه لفتح الشام بعد
أن أسندها اليه لا لشيء إلاّ لأنّ عمر نبّهه إلى نزعة خالد الهاشميّة وميله إلى آل
محمد (صلى الله عليه وآله) وذكّره بموقفه تجاههم بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه
وآله) .
إذن فقد كانت الفئة الحاكمة تحاول أن تساوي بين بني هاشم وسائر الناس، وترتفع برسول
الله (صلى الله عليه وآله) عن الاختصاص بهم، لتنتزع بذلك الفكرة التي كانت تزوّد
الهاشميّين بطاقة على المعارضة، ولئن اطمأنّ الحاكمون إلى أن علياً لا يثور عليهم
في تلك الساعة الحرجة على الإسلام فهم لا يأمنون من انتفاضته بعد ذلك في كلّ حين ،
ومن الطبيعي حينئذ أن يسارعوا إلى الإجهاز على كلتا قوّتيه المادية « فدك »
والمعنوية، ما دامت الهدنة قائمة قبل أن يسبقهم إلى حرب أكول .
4 ـ ومن المعقول بعد هذا أن يقف الخليفة موقفه التأريخي المعروف من الزهراء (عليها
السلام) في قضية فدك ، فهو موقف تلاقى فيه الغرضان وتركّز على الخطّين الأساسيّين
لسياسته، لأنّ الدواعي التي بعثته لانتزاع فدك كانت تدعوه إلى الاستمرار على تلك
الخطّة ليسلب بذلك من خصمه الثروة التي كانت سلاحاً قوياً في عرف الحاكمين يومذاك
ويعزّز سلطانه، وإلاّ فما الذي كان يمنعه عن تسليم فدك للزهراء بعد أن أعطته الوعد
القاطع بأن تصرف منتوجاتها في سبيل الخير ووجوه المصلحة العامة ؟ إلاّ أنّه خاف
منها أن تفسّر وعدها بما يتّفق مع صرفها لغلات فدك في المجالات السياسية ، وما الذي
صدّه عن إرضاء فاطمة بالتنازل لها عن حصّة ونصيب الصحابة إذا صحّ أنّ فدك للمسلمين
سوى أنّه أراد أن يقوّي بها خلافته ؟.
وأيضاً فإنّنا إذا عرفنا أنّ الزهراء كانت سنداً قوياً لقرينها في دعوته إلى نفسه
ودليلاً يحتجّ به أنصار الإمام على أحقيّته بالأمر نستوضح أنّ الخليفة كان موفّقاً
كلّ التوفيق في موقفه تجاه دعوى الزهراء للنحلة وجارياً على المنهج السياسي الذي
كان يفرضه عليه الظرف الدقيق ، إذ اغتنم الفرصة المناسبة لإفهام المسلمين بصورة
لبقة وعلى اُسلوب غير مباشر بأنّ فاطمة امرأة من النساء ولا يصحّ أن تؤخذ آراؤها
ودعاويها دليلاً في مسألة بسيطة كفدك فضلاً عن موضوع كالخلافة ، وأنّها إذا كانت
تطلب أرضاً ليس لها بحقّ فمن الممكن أن تطلب لقرينها المملكة الإسلامية كلّها وليس
له فيها حقّ[2] .