إنّ أصعب مرحلة في تأريخ الاُمة ا

إنّ أصعب مرحلة في تأريخ الاُمة الإسلامية اشتعلت شرارتها ودوى انفجارها هي التي أعقبت وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) .



لقد كانت تحكم الظروف المعقّدة ـ آنذاك ـ عناصر موضوعية واُخرى ذاتية ، فالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أتمّ تبليغ الرسالة الإسلامية كاملة عن الله عزوجل، وكان وجوده (صلى الله عليه وآله) عنصر الإشعاع الإيماني ومدعاةً للإستقرار والبناء ، ولكن عمق الخلل الكبير في المجتمع الإنساني والذي يمتد إلى بُعد غير منظور ربّما كان متجسّداً في عقول وسلوك أفراد عديدين كانوا قريبين من مصادر قوة وحركة مجتمع الجزيرة ـ الحديث العهد بالإسلام ـ جعل التفاعل بين طرفي الحقّ والباطل يظهر بشدّة بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) .



لقد كان الصراع الذي برز على ساحة المجتمع الإسلامي دليلاً على عدم استيعاب العدد الأكبر للعقيدة الإسلامية بكلّ أبعادها وحدودها ، وكان من نتائج هذا الصراع أن بدأت عملية انحراف التجربة الإسلامية وما يترتّب عليها من آثار سيئة على المسلمين إلى يومنا هذا .



إنّ الفترة التي تلت وفاة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ازدحمت بالأحداث المتناقضة والارتجالية ، ولكي ندرس حياة الزهراء (عليها السلام) في هذه الفترة لا بدّ أن نستعرض الوضع العام وما جرى من أحداث، كي يمكن من خلالها أن نتصور حالة المجتمع أنذاك والقوى المؤثّرة والمتفاعلة فيه وما تتركه من آثار على أهل بيت النبوّة عامة والزهراء (عليها السلام) خاصة من تعدّي وظلامات ، وأوّل ما يصادفنا هو إجتماع السقيفة ودوره الأساسي لكلّ المواقف التي تلته وتأسّست عليه .



لقد انشغل الإمام عليّ (عليه السلام) وأهل بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله) وبنو هاشم والموالون لهم في تجهيز النبيّ (صلى الله عليه وآله) والاستعداد لمراسم دفنه ، واستغلت هذا الانشغال العناصر التي كانت لها مطامع ورغبات في الوصول إلى الزعامة غير عابئة بالأوامر والنواهي الإلهية التي وردت على لسان النبي الكريم.



لقد كان هناك موقفان : الأول : وقوف عمر بن الخطاب وهو يصرّح وسط جموع المسلمين المحتفين حول بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله) والحزن ظاهر عليهم : أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لَمْ يمت ، وأخذ يهدّد ويتوعّد من يدّعي ذلك وإصراره على موقفه المريب حتى مجيء أبي بكر من خارج المدينة .



والموقف الآخر: اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة برئاسة سعد بن عبادة الخزرجي .



وقد اتفق المؤرّخون والمحدّثون بأنّ موقف عمر بن الخطاب انتهى بحضور أبي بكر وقراءته للآية ( وما محمّد إلاّ رسول ... ) على الناس، إذ هدأت ثورة عمر بن الخطاب وخرجا معاً من بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله) وتركاه بين أهله المفجوعين بوفاته .



والذي تؤكّده القرائن وسير الأحداث أنّهما انصرفا إلى مكان ما كانوا قد أعدّوه لاتخاذ التدابير اللازمة ، وربّما أنّ أكثر الأنصار بما فيهم سعد بن عبادة لم يضعوا في حسابهم غير عليّ (عليه السلام) للخلافة بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) كما كان الاعتقاد السائد بين عامة المسلمين أنّها لن تعدوه ، ولكن بعد أن تبيّن للأنصار أنّ شيوخ المهاجرين قد تكتّلوا لصرفها عنه والاستيلاء عليها وتجاهلوا نصوص الرسول عليه وأنّهم في هذا التحالف القرشي الجديد يرجعون إلى إحياء الروح الجاهلية والنزعات القبلية ، في حين أنّهم قد قدّموا للدعوة وصاحبها وبذلوا له من أنفسهم وأموالهم ما لم يقدّمه ويبذله أحد من المهاجرين الذين يخطّطون للاستيلاء على السلطة من بعده ، بعد أن تبيّن لهم ذلك اجتمع فريق منهم بزعامة سعد بن عبادة في السقيفة للتداول بشأن الخلافة، وهتف جماعة منهم باسم سعد بن عبادة ، ولمّا اتّصل الخبر بالمهاجرين عن طريق بعض الأنصار الذين كانوا يناوئون سعداً ويعملون لغير صالحه، تركوا مكانهم وأقبلوا مسرعين إلى سقيفة بني ساعدة، فوقف خطيب الأنصار وأشاد بالأنصار ومواقفهم وتضحياتهم في سبيل الإسلام وتمنّى على المهاجرين أن لا يتجاهلوهم ويجعلوا لهم شيئاً من الأمر ، وتحدّث بعده أبو بكر فنوّه بفضل قريش وأمجادها وأعاد إلى الأذهان مواقف العرب قبل الإسلام وتفاخرهم بالأحساب والأنساب .



وجاء في رواية العقد الفريد أنّه قال : نحن المهاجرين أوّل الناس إسلاماً وأكرمهم أحساباً وأوسطهم داراً وأحسنهم وجوها وأمسّهم برسول الله رحماً ، ومضى يقول : إنّ العرب لا تدين إلاّ لهذا الحيّ من قريش فلا تنفسوا على إخوانكم المهاجرين ما فضّلهم الله به، فقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، وأشار إلى عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح .



وانتهز أبو بكر ـ وهو يتحدّث عن قريش وأمجادها وعن المهاجرين بالذات ـ صوت بشير بن سعد الخزرجي وقد ارتفع في ناحية من نواحي البيت، وأخذه الحسد لابن عمّه وهو يقول : أيّها الناس ألا إنّ محمّداً من قريش وإنّ قومه أحقّ به وأولى ، وأيم الله لا يراني الله اُنازعهم في هذا الأمر أبداً .



وأبى عليه الحباب بن المنذر الخزرجي أن يبرز بين الناس بهذا الاُسلوب الذي يتّسم بطابع الدجل والنفاق والحسد لابن عمّه ، فقال: لقد عزّ على بشير بن سعد أن يتولّى ابن عمّه السلطة بعد النبي حسداً وبغضاً، فظهر بمظهر من لا يريد أن ينازع أحداً حقّاً هو أولى به ، ثم قال : ما أحوجك إلى ما صنعت يا بشير! لقد نفست الإمارة على ابن عمّك سعد بن عبادة .



ولم ينته الجدل عند هذا الحد، بل قام اُسيد بن حضير أحد زعماء الأوس يثير في النفوس أحقاد الجاهلية ويذكر بما بين الحيّين الأوس والخزرج من خلافات وأحقاد وعصبيات قد أطفأتها سماحة الإسلام ، ومضى يخاطب الأوس ويقول : يا بني الأوس، والله لأن ولّيتموها سعداً عليكم مرة لا يزال للخزرج بذلك عليكم الفضل ولا جعلوا لكم فيها نصيباً أبداً.



واستغل أبو بكر صوت بشير بن سعد الذي جرّ هذا الانقسام ، فأخذ عمر بن الخطاب بيد وأبا عبيدة بالاُخرى ونادى: أيّها الناس ، هذا عمر وهذا لاأبو عبيدة فبايعوا أيّهما شئتم ، وقام الحباب بن المنذر بعد هذا التدبير المدروس بين الثلاثة وقال : يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر ، واستولى الغضب على ابن الخطاب فانبرى يقول : من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته إلاّ مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورّط في هلكة؟



ولمّا سمع الحباب بن المنذر تحدّي عمر بن الخطاب واُسلوبه المتغطرس توجّه إلى الأنصار وقال : أما إذا أبوا عليكم ما سألتموهم فاجلوهم عن هذه البلاد، فأنتم والله أحقّ بهذا الأمر منهم ، بأسيافكم دان بهذا الدين من دان ، ثم انتضى سيفه يلوح به ويقول : أنا جذيلها المحكك وغذيقها المرجب ، أما والله إن شئتم لنعيدنّها جذعة ، وهنا عصف الغضب بجوانح عمر بن الخطاب وكاد أن يقع الشرّ بين الطرفين ، فوقف أبو عبيدة بن الجراح ليحول دون وقوع الفتنة ، فقال بصوت هادئ : يا معشر الأنصار كنتم أول من نصر وآزر فلا تكونوا أول من غيّر وبدّل ، ومضى يتحدّث بلهجة فيها توسّل ورجاء فلم يلبثوا حتى هدأت نفوسهم وانقسم الأنصار على أنفسهم، وأسرع عمر بن الخطاب بعد هذا الحوار إلى أبي بكر وقال : أبسط يدك يا أبا بكر ، ما كان لأحد أن يؤخّرك عن مقامك الذي أقامك الله فيه ، وقام بعده أبو عبيدة بن الجراح وقال له : إنّك لأفضل المهاجرين وثاني اثنين إذ هما في الغار وخليفة رسول الله على الصلاة ، فبسط أبو بكر لكليهما كفّه فبايعاه ، وأسرع بعدهما بشير بن سعد وجماعة من الخزرج فبايعوه وتبعهم اُسيد بن حضير بمن معه من الأوس ، وخرجوا من سقيفة بني ساعدة يهتفون لأبي بكر ولا يمرّون على أحد إلاّ وأخذوا بيده وأمروها على يد أبي بكر ومن أبى ضربه عمر بن الخطاب بدُرّته وتكاثر عليه أتباعه حتى يرغموه على البيعة، وتمت بيعة أبي بكر بهذا النحو الذي كان مفاجأة لأكثر الناس .



ومن مجموع ذلك يتبيّن أنّ التخطيط لإقصاء عليّ عن السلطة والاستيلاء عليها لم يكن وليد ساعته كما تؤكده الشواهد، وأنّ موقف الأنصار بقيادة سعد بن عبادة كان ارتجالياً لم يُحَضّر له من قبل كما يبدو ذلك من اختلافهم وتضارب آرائهم ، كما تبيّن أنّ القادة الثلاثة أبا بكر وعمر بن الخطاب وابن الجراح هم قادة الحزب القرشي المتآمر على الاستيلاء على السلطة وإقصاء علي بن أبي طالب عنها، وأنّ أقوى ما لديهم من الأدلّة في مقابل الأنصار لا يعدو الأمرين : أولهما : أنّ المهاجرين أوّل الناس إسلاماً ، والثاني: أنّهم أقرب الناس إلى رسول الله وأمّسهم به رحماً ، وقد أدان هؤلاء القادة أنفسهم بهذه الحجّة ، ذلك لأنّ الخلافة إذا كانت بالسيف إلى الإسلام والقرابة القريبة من رسول الله كما يدّعون فهي لعليّ (عليه السلام) وحده ، لأنّه أوّل الناس إسلاماً وإيماناً وتصديقاً برسالة محمّد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله) باتفاق جميع المسلمين ، وأخوه بمقتضى المؤاخاة التي عقدها النبيّ معه يوم آخى بين المهاجرين والأنصار في المدينة، وهو ابن عمّه نسباً، وأقرب الناس إلى نفسه وقلبه بلا شك في ذلك عند أحد من الناس .



لقد ناقض نفسه أبو بكر حينما احتجّ على الأنصار بالقرابة والسبق إلى الإسلام ورشّح لها عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح لأنّهما أسبق إلى الإسلام من الأنصار وأمسّهم بالنبي رحماً، وتجاهل علي بن أبي طالب الذي بايعه مائة ألف أو يزيدون في غدير خم قبل مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر، وقد سبق جميع الناس إلى الإسلام، وكان ابن عمّ النبي نسباً وأخاه وحده في الله بإجماع المؤرّخين والمحدّثين ، وبمواقفه وتضحياته وجهاده استقام الإسلام وانتصر على الشرك والوثنية وعلى قريش التي عادت سيرتها الاُولى تحارب محمداً المتمثّل في خط عليّ وشخصه (عليه السلام) .



وما كان الأمر مخفيّاً على أبي بكر الذي يعتقد سلامة هذا الاُسلوب وكفايته حين رشّح لها أحد الرجلين، ولكنه هو وأنصاره كانوا قد خطّطوا لذلك، واتّفقوا مع بعض الأنصار والمهاجرين على إقصاء عليّ عن الخلافة والاستيلاء عليها بكلّ الأساليب ، وكان يتكلم مع الفريق الثاني من الأنصار الذين استفزّهم موقف أبي بكر وأنصاره، واجتمعوا في سقيفة بني ساعدة يتداولون في مصير الخلافة، كان يتكلّم معهم هو ورفيقاه بمنطق القويّ الذي يريد أن يفرض على الغير وجوده ولو بهذا النحو من التمويه والتضليل .



وممّا يدل على ذلك جواب عمر بن الخطاب له حينما أشار على الحضور أن يبايعوا أحد الرجلين عمر بن الخطاب أو أبا عبيدة ، فأجابه على الفور: أيكون هذا وأنت حيّ ؟ ما كان لأحد أن يؤخّرك عن مقامك الذي أقامك فيه رسول الله[1]!



هذا الجواب يشير إلى تخطيط واتفاق بينهما على الاُسلوب الذي تتمّ فيه بيعة أبي بكر ، وفي الوقت ذاته يحاول ابن الخطاب من خلاله تضليل الرأي العام وإيهامه بأنّ رسول الله قد اختاره للخلافة كما يشير إليه قوله : ما كان لأحد أن يؤخّرك عن مقامك الذي أقامك فيه رسول الله ، هذا مع العلم بأنّ المؤرّخين لحياة الرسول (صلى الله عليه وآله) من القدامى والمحدّثين والثقات الذين حفظوا حديثه ورووه للأجيال لم يدّعوا بأنّ النبيّ قد لوّح له ـ ولو من بعيد ـ بذلك المقام الذي يعمل من أجله ابن الخطاب وأنصاره ، بل إنّ مواقف النبيّ معه كانت على العكس من ذلك فلم يعهد إليه بأمر ولا وضعه في مكان يحقّق له امتيازاً عن غيره ، وكان إذا أرسله على رأس سرية من السرايا ـ كما حدث له في غزوة السلاسل ـ أو أعطاه الراية ـ كما صادف ذلك في خيبر ـ يرجع فاشلاً مخذولاً ، وفي الأيام الأخيرة من حياته بعد أن علم بقرب أجله أراد أن يخرجه من المدينة كجندي من جنود المسلمين هو وعمر بن الخطاب بقيادة اُسامة بن زيد وهو شاب لا يتجاوز العشرين من عمره على أبعد التقادير .



أمّا حديث صلاته بالناس في بعض الأيام خلال مرض النبي الذي أشار إليه أبو عبيدة في حديثه مع الأنصار فمع أنّ إمامة المصلّين كانت ولا تزال مألوفة يتعاطاها الكبير والصغير والفاضل والمفضول فهي على تقديرها لا توجب له فضلاً على أحد من الناس ، وليست من مختصّات الأنبياء والأولياء والقدّيسين ، ولقد دعته إليها ابنته عائشة حيث كان النبي في وضع لا يسمح له بترك فراشه ، ولمّا علم بالأمر خرج يتوكّأ على علي والعباس ونحّاه عن محرابه ، وصلّى بالناس وهو يعاني من وطأة المرض وآلامه .



والشيء الغريب الذي لا يقرّه العقل والمنطق أن يعتبرها جماعة من علماء السنَّة ومحدّثيهم فضيلة لأبي بكر تؤهّله للخلافة ، في حين أنّهم يعترفون بمواقف النبي (صلى الله عليه وآله) من علي يوم الدار وفي اُحد والأحزاب والحديبية وخيبر وحنين وتبوك وفي غدير خم، ومؤاخاته له في مكة والمدينة، ولا يرون في جميع ذلك دليلاً على اختياره لمنصب الخلافة من بعده، بل ولا تلميحاً على اختياره ، ويرون في صلاة أبي بكر ركعتين بالمسلمين دليلاً واضحاً على إعداده لقيادة الاُمة من بعده وإعطائه الصلاحيات التي كانت له .



وممّا يدل على أنّ حركة الأنصار واجتماعهم في السقيفة كانت رداً على التخطيط الذي وضعه المهاجرون للاستيلاء على السلطة ما جاء في رواية الزبير بن بكار حيث قال :



لمّا بايع الجماعة أبا بكر; أقبلوا به على المسجد يزفّونه زفّا ، فلمّا كان آخر النهار اجتمع قوم من الأنصار وقوم من المهاجرين وتعاقبوا فيما بينهم على الكلام ، فقال عبد الرحمن بن عوف : يا معشر الأنصار إنّكم وإن كنتم اُولي فضل ونصر وسابقة ولكن ليس فيكم مثل أبي بكر ولا عمر ولا عليّ ولا أبي عبيدة .



فقال زيد بن أرقم : إنّا لا ننكر فضل من ذكرت يا عبد الرحمن ، وإنّ منّا لسيد الأنصار سعد بن عبادة، ومن أمر الله رسوله أن يقرئه السلام وأن يأخذ عنه القرآن اُبي بن كعب ومن يجيء يوم القيامة أمام العلماء معاذ بن جبل ، ومن أمضى رسول الله شهادته بشهادة رجلين وهو خزيمة بن ثابت ، وإنّا لنعلم أنّ بين من ذكرت من قريش من لو طلب الخلافة لم ينازعه فيها أحد وهو عليّ ابن أبي طالب .



وجاء في تاريخ الطبري أنّ أبا بكر لمّا اقترح أحد الرجلين أبا عبيدة أو عمر بن الخطاب وانسحبا هما لأبي بكر قال الأنصار: لا نبايع إلاّ عليّ بن أبي طالب[2] .



هاتان الروايتان صريحتان في أنّ الأنصار لم يعارضوا في عليّ بن أبي طالب لو أنّه كان مرشّح المهاجرين لها، وهذا يعني أنّ موقفهم المعارض لأبي بكر في السقيفة كان ردّاً على التخطيط، الذي وضعته قريش للاستيلاء على السلطة وانتزاعها من أصحابها الشرعيين .



وقال الاُستاذ توفيق أبو علم في كتابه «أهل البيت» : ولا يبعد أن يكون سعد بن عبادة لمّا رأى تصميم المهاجرين على عدم إعطاء الحقّ لأهله طلبه لنفسه .



ومهما كان الحال، فلقد كانت مواقف النبي من علي (عليه السلام) وتصريحاته المتتالية فيه في مختلف المناسبات تجعله بحكم المتعيّن لها بنظر الجمهور الأعظم من المسلمين، حتى أنّ علياً نفسه كان واثقاً بأنّ الأمر لا يعدوه .



وجاء في شرح النهج لابن أبي الحديد أنّ عليّاً (عليه السلام) كان لا يشك في أنّ الأمر له، وأنّه لا ينازعه فيه أحد من الناس ومضى يقول :



وقد قال له عمّه العباس : امدد يدك اُبايعك فيقال عمّ رسول الله بايع ابن عمّ رسول الله فلا يختلف عليك إثنان ، فقال يا عمّ : وهل يطمع فيها طامع غيري ، قال : ستعلم ، فقال : إنّي لا اُحب هذا الأمر من وراء رتاج .



وبالطبع لقد دهش هو ومن معه لهذا الحدث العظيم حينما سمع به ورأى الناس يزفّون أبا بكر إلى المسجد كما تزفّ العروس والنبيّ (صلى الله عليه وآله) لا يزال مسجىً بين أهله وزوجاته ينتظرون أن يتمّ تجهيزه لمقره الأخير ، وحينما بلغه أنّ أبا بكر قد احتجّ على معارضيه من الأنصار بقرابته من رسول الله وسبقه إلى الإسلام كان لزاماً عليه أن يلزمهم بما ألزموا به غيرهم ولو كان لا يؤمن بصحّة هذه الحجّة ولا بجدواها ، وباستطاعته أن يقدّم لهم عشرات الأدلّة التي لا تقبل الجدل والمراجعة لو كانوا يصغون إلى المنطق وتردعهم الحجّة عمّا هم جادّون فيه ، ومع ذلك فقد احتجّ عليهم بالحجّة التي تغلّبوا فيها على الأنصار وبأقوال الرسول ونصوصه عليه وبماضيه وجهاده واُخوّته لرسول الله، وظلّ متمسّكاً بحقّه وإلى جانبه زوجته سيّدة النساء تطالب بنحلتها وحقّ زوجها في الخلافة .



وذهب أكثر الرواة إلى أنّ أبا سفيان وقف موقف المتحمّس لعليّ، وأخذ يهدّد ويتوعّد ويقول : والله لأملأنّها عليهم خيلاً ورجالاً ، ولم يكن ليخفى على عليّ (عليه السلام) أنّ ذلك منه كان بقصد الوقيعة بين المسلمين وإشعال الفتنة ليتاح له ولأمثاله ممّن أسرّوا الشرك والنفاق أن يصلوا لأهدافهم المعادية للإسلام وحماته الذين حاربهم أبو سفيان عشرين عاماً ، وبالتالي كان إسلامه وإسلام زوجته هند آكلة الأكباد عام الفتح أعسر إسلام عرف بين المسلمين ، لأنّه كان إسلام مغلوب أعيته جميع الوسائل، فاضطرّ أخيراً إلى الدخول مع المسلمين وفي نفسيهما آلام وأحقاد كانت تظهر بين الحين والآخر .



وجاء في رواية الطبري وابن الأثير في الكامل أنّ أمير المؤمنين زجر أبا سفيان بن حرب وقال له : «والله ما أردت إلاّ الفتنة ، وإنّك والله طالما بغيت للإسلام شراً لا حاجة لنا في نصرتك»[3] .