بدأت بوضوح ملموس ملامح وآثار الانحراف الذي حصل يوم السقيفة في نهاية أيّام حكم الإمام عليه السلام حيث بدأ معاوية ومن اقتفى أثره في محاربة الإسلام من داخل الإسلام بتفكيك ما بقي من أواصر تماسك المجتمع الإسلامي وتخريبه وبناء مجتمع ينسجم وفق رغباتهم وأهوائهم، ويمكننا أن نلحظ حال الأمة بعد خوض الإمام عليه السلام ثلاث معارك فيصلية لاجتثاث الفساد فيما يلي :

١ ـ مُني الإمام عليه السلام والأمة بفقد خيار الصحابة الواعين والمؤثِّرين في المجتمع وحركة الرسالة الإسلامية الذين كان يمكن من خلالهم بناء الأمة الصالحة وفق نهج القرآن والسنّة بإشراف الإمام عليه السلام ، وقد بلغ الحزن في نفس الإمام مبلغاً عظيماً نجده في نعيه لهم بقوله :

(ما ضرّ إخواننا الذين سفكت دماؤهم بصفّين أن لا يكونوا اليوم أحياءً يسيغون الغصص ويشربون الرنق ، قد والله لقوا الله فوفّاهم أجورهم وأحلّهم دار الأمن بعد خوفهم أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحقّ ؟ أين عمار ؟ وأين ابن التيهان ؟ وأين ذو الشهادتين ؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على النيّة واُبرد برؤوسهم إلى الفجرة ؟) .

ثمّ وضع يده على كريمته فأطال البكاء ثمّ قال :(أَوِّه على إخواني الذين قرءوا القرآن فأحكموه وتدابروا الفرض فأقاموه ، أحيوا السنّة وأماتوا البدعة ، دعوا للجهاد فأجابوا ، ووثقوا بالقائد فاتّبعوه) (١) .

٢ ـ تمرّد الجيش وتفكّكه وظهور الضعف والسأم من الحرب لكثرة مَن قتل من أهل العراق الذين يشكّلون العمود الفقري لفرق جيش الإمام عليه السلام ،

ــــــــــــ

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد : ١٠ / ٩٩ .


 وممّا زاد من تفتيت الجيش عدم توقّف معاوية من مخاطبة زعماء القبائل والعناصر التي يبدو منها حبّ الدنيا ، فمنّاهم بالأموال والهبات والمناصب إذا قاموا بكلّ ما يؤدي إلى إضعاف قوّة الإمام عليه السلام وجماهيره المؤيدة ، حتى أنّ الإمام عليه السلام لم يستطع أن يعبّئ في معسكر النخيلة بعد معركة النهروان استعداداً لقتال معاوية ن فقد تسلّل أغلب أفراد الجيش إلى داخل الكوفة ممّا أدّى بالإمام عليه السلام أن يلغي المعسكر ويؤجّل الحرب(١) .

٣ ـ لقد أتاح الظرف الذي مرّ به الإمام عليه السلام والاُمّة الإسلامية لمعاوية أن يقوم بشنّ غارات على أطراف البلاد الإسلامية ، فمارس القتل والسبي والإرهاب ، فبدأ بالهجوم على أطراف العراق فأرسل النعمان بن بشير الأنصاري للإغارة على منطقة (عين التمر) ، ووجّه سفيان بن عوف للإغارة على منطقة (هيت) ثم على (الأنبار والمدائن) ، وإلى (واقصة) وجّه معاوية الضحّاك بن قيس الفهري وفي كلّ مرّة يحاول الإمام عليه السلام دعوة الجماهير لمقاومة غارات معاوية فلم يلق الاستجابة السريعة ، وأدرك معاوية ضعف قوة حكومة الإمام عليه السلام وتزايد قوّته(٢) .

وبعث معاوية بسر بن أُرطاة للغارة على الحجاز واليمن ، فعاث في الأرض فساداً وقتلاً للأبرياء(٣) وبلغ الأسى والأسف في نفس الإمام عليه السلام مبلغاً عظيماً ممّا يفعل المجرمون ومن تخاذل الناس عنه، فكان يصرّح بضجره من تخاذلهم وتقاعسهم فقال :(اللّهمّ إنّي قد مللتهم وملّوني وسئمتهم وسئموني فأبدلني بهم خيراً منهم

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٤ / ٦٧ .

(٢) الغارات للثقفي : ٤٧٦ ، وتأريخ الطبري : ٤ / ١٠٢ و ١٠٣ .

(٣) الغارات للثقفي : ٤٧٦ ، وتأريخ الطبري : ٤ / ١٠٦ ط مؤسسة الأعلمي .


وأبدلهم بي شراً منّي) (١) .

وقد أنذر الإمام عليه السلام الأمة الإسلامية بمستقبل مظلم وآلام كثيرة تحلّ بها نتيجة لما آلت إليها من تقاعس وتخاذل عن نصرة الحقّ ، فقال عليه السلام :(أما إنّكم ستلقون بعدي ذلاًّ شاملاً ، وسيفاً قاطعاً ، وأثرةً يتّخذها الظالمون فيكم سنّة ، فيفرّق جماعتكم ، ويبكي عيونكم ، ويدخل الفقر بيوتكم ، وتتمنّون عن قليل أنّكم رأيتموني فنصرتموني ، فستعلمون حقّ ما أقول لكم) (٢) .