ما أن سمع عمر خبر اجتماع الأنصار في السقيفة ؛ حتى أتى منزل رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم وفيه أبو بكر ، فأرسل إليه أن أُخرج إليَّ ، فأجابه بأنّه مشغول ، فأرسل إليه عمر ثانيةً أن أُخرج فقد حدث أمر لا بدّ أن تحضره .

فخرج إليه أبو بكر ، فمضيا مسرعين نحو السقيفة ومعهما أبو عبيدة ومن ثَمّ لحقهم آخرون ، فأدركوا الأنصار في ندوتهم ولمّا يتمّ بعدُ الاجتماع ولم ينفضّ أصحابه ، فتغيّر لون سعد بن عبادة وأُسقط ما في أيدي الأنصار وساد عليهم الوجوم والذهول ، ونفذ الثلاثة في تجمّع الأنصار أتمّ نفوذ وأتقنه ، ينمّ عن معرفتهم بالنفوس ونوازعها ورغباتها ومعرفتهم بنقاط الضعف التي من خلالها تسقط ورقة الأنصار .

أراد عمر أن يتكلّم فنهره أبو بكر لعلمه بشدّته وغلظته والموقف خطير وملبّد بالأحقاد والأضغان ، ويجب أن يستعمل فيه البراعة السياسية والكلمات الناعمة لكسب الموقف أوّلاً ثمّ يأتي دور الشدّة والغلظة .

وافتتح أبو بكر الحديث بأسلوب لبق فخاطب الأنصار باللطف ، ولم يستعمل في خطابه أيّ كلمة مثيرة فقد قال : نحن المهاجرون أوّل الناس إسلاماً ، وأكرمهم أحساباً ، وأوسطهم داراً ، وأحسنهم وجوهاً ، وأمسّهم برسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم رحماً ، وأنتم إخواننا في الإسلام ، وشركاؤنا في الدين ، نصرتم وواسيتم ، فجزاكم الله خيراً ، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء ، لا نفتات عليكم بمشورة ، ولا نقضي دونكم الأمور ، فقال الحباب بن المنذر بن الجموح : يا معشر الأنصار ! املكوا عليكم أمركم ، فإنّ الناس في ظلكم ولن يجترئ مجترئ على خلافكم ، ولا يصدر أحد إلاّ عن رأيكم ، أنتم أهل العزّة والمنعة ، وأولو العدد والكثرة ، وذوو البأس والنجدة ، وإنّما ينظر الناس ما تصنعون فلا تختلفوا فتفسد عليكم أموركم ، فإن أبى هؤلاء إلاّ ما سمعتم فمنّا أمير ومنهم أمير ، فقال عمر : هيهات لا يجتمع سيفان في غمد ، والله لا ترضى العرب أن تؤمّركم ونبيّها من غيركم ، ولا تمتنع العرب أن تولّي أمرها من كانت النبوّة منهم ، فمن ينازعنا سلطان محمّد ونحن أولياؤه وعشيرته .

فقال الحباب بن المنذر : يا معشر الأنصار ! املكوا أيديكم ، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر ، فإن أبوا عليكم ؛ فاجلوهم من هذه البلاد ، وأنتم أحقّ بهذا الأمر منهم ، فإنّه بأسيافكم دانَ الناس بهذا الدين ، أنا جذيلها المحكك وعُذيقها المرجَّب ، أنا أبو شبل في عرينة الأسد ، والله إن شئتم لنعيدها جذعة .


وهنا تأزّم الموقف وكاد أن يقع الشرّ بين الطرفين ، فوقف أبو عبيدة بن الجرّاح ليحول دون ذلك ويتدارك الفشل ، فقال بصوت هادئ مخاطباً الأنصار : يا معشر الأنصار ! أنتم أوّل من نصر وآوى ، فلا تكونوا أوّل من بدّل ، وانسلت كلماته هادئةً إلى النفوس ، فسادَ الصمت لحظات على الجميع ، فاغتنمها بشير بن سعد لصالح المهاجرين هذه المرّة ، يدفعه لذلك حَسده لسعد بن عبادة فقال : يا معشر الأنصار ! ألا إنّ محمّداً من قريش وقومه أولى به ، وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر .

فاغتنم المهاجرون الثلاثة هذه الثغرة في جبهة الأنصار ، فطفقوا يقدّم بعضهم بعضاً ، فبدا أنّهم لم يروا أنّ واحداً منهم يدعمه نصّ شرعيّ أو يختص بميزة ترفع من رصيده مقابل غيره فتؤهّله للخلافة .

فقال أبو بكر : هذا عمر وأبو عبيدة بايِعوا أيّهما شئتم(١) ، وقال عمر:

ــــــــــــ

(١) الإمامة والسياسة : ١ / ١٥ ، وتأريخ الطبري : ٢ / ٤٥٨ ط مؤسسة الأعلمي ، والكامل في التأريخ : ٢ / ٣٢٥ .


يا أبا عبيدة، ابسط يدك أبايعك ، فأنت أمين هذه الأمة(١) ، فقال أبو بكر : يا عمر ! ابسط يدك نبايع لك ، فقال عمر : أنت أفضل منّي ، قال أبو بكر : أنت أقوى منّي ، قال عمر : قوّتي لك مع فضلك ابسط يدك أبايعك(٢) فلمّا بسط يده ليبايعاه سبقهما بشير بن سعد فبايعه ، فناداه الحباب بن المنذر : يا بشير ! عَقَّتك عقاق، أنفِستَ على ابن عمّك الإمارة ؟

ولمّا رأت الأوس ما صنع بشير وما تطلب الخزرج من تأمير سعد ؛ قال بعضهم لبعض وفيهم أسيد بن خضير وكان نقيباً : والله لئن وليتها الخزرج مرّة ؛ لا زالت عليكم بذلك الفضيلة أبداً ، فقوموا فبايعوا أبا بكر ، فانكسر على سعد والخزرج ما أجمعوا عليه ، وأقبل أصحاب أسيد يبايعون أبا بكر(٣) ، وقالت بعض الأنصار : لا نبايع إلاّ عليّاً(٤) .

ثم أقبل أبو بكر والجماعة التي تحيط به يزفّونه إلى المسجد زفاف العروس(٥) والنبيّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم لازال ملقىً على فراش الموت ، وعمر يهرول بين يديه وقد نبر حتى أزبد شدقاه وجماعته تحوطه وهم متّزرون بالأُزر الصنعانية ، لا يمرّون بأحد إلاّ خبطوه وقدّموه ، فمدّوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه شاء ذلك أو أبى(٦) .

لقد كانت حجّة الحزب القرشي في السقيفة ضد الأنصار مبنيّة على أمرين :

١ ـ إنّ المهاجرين أوّل الناس إسلاماً .

٢ ـ إنّهم أقرب الناس إلى رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم وأمسّهم به رحماً .

ــــــــــــ

(١) الطبقات الكبرى : ٣ / ١٨١ .

(٢) تأريخ الخلفاء للسيوطي : ٧٠ .

(٣) الكامل في التأريخ : ٢ / ٣٣٠ .

(٤) تأريخ الطبري : ٢ / ٤٤٣ ط مؤسسة الأعلمي .

(٥) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٦ / ٨ .

(٦) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١ / ٢١٩ ط دار إحياء الكتب العربية .


وقد أدان هؤلاء القادة أنفسهم بهذه الحجّة ، وذلك لأنّ الخلافة إذا كانت بالسبق إلى الإسلام والقرابة القريبة من رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ـ كما يدّعون ـ فهي لعليّ عليه السلام وحده ، لأنّه أوّل الناس إسلاماً وإيماناً وتصديقاً بالرسالة الإسلامية ، وأخوه بمقتضى المؤاخاة التي عقدها النبيّ بينه وبين عليّ يوم آخى بين المهاجرين في مكّة ، وبينهم وبين الأنصار في المدينة ، وابن عمّه نسباً وأقرب الناس إلى نفسه وقلبه بلا شكّ في ذلك .