الإمام عليّ عليه السلام ومهمّة جمع القرآن :

اتّفقت كلّ الروايات الصحيحة على أنّ الإمام عليّاً عليه السلام ما أن انتهى من تجهيز النبيّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ومواراته الثرى ؛ حتى اعتكف في داره منشغلاً بجمع آيات القرآن وترتيبها حسب نزولها بعد أن كانت مبعثرة في الألواح .


وروي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام : أنّ رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم قال لعليّ عليه السلام :يا عليّ ! القرآن خلف فراشي في المصحف والحرير والقراطيس فخذوه ، واجمعوه ، ولا تضيّعوه كما ضيّعت اليهود التوراة ، فانطلق عليّ عليه السلام فجمعه في ثوب أصفر (١) وجاء أيضاً أنّ الإمام عليّاً عليه السلام رأى من الناس طيرة عند وفاة النبيّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم فأقسم أنّه لا يضع على ظهره رداءه حتى يجمع القرآن ن فجلس في بيته ثلاثة أيام حتى جمع القرآن(٢) .

كما روي أنّ عليّاً عليه السلام انقطع عن الناس مدّةً حتى جمع القرآن ، ثمّ خرج إليهم في إزار يحمله وهم مجتمعون في المسجد ، فلمّا توسّطهم وضع الكتاب بينهم ثمّ قال :إنّ رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم قال : ( إنّي مخلّف فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ) وهذا كتاب الله وأنا العترة (٣) ، وقال لهم : لئلاّ تقولوا غداً إنّا كنّا عن هذا غافلين .

ثمّ قال : لا تقولوا يوم القيامة إنّي لم أدعُكُمْ إلى نصرتي ولم أذكركم حقّي ولم أدعكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته(٤) .

فقال له عمر : إن يكن عندك قرآن فعندنا مثله فلا حاجة لنا فيكما .

ــــــــــــ

(١) المناقب لابن شهر آشوب : ٢ / ٤١ ، وفتح الباري : ١٠ / ٣٨٦، والإتقان للسيوطي : ١ / ٥١ .

(٢) الفهرست لابن النديم : ٣٠ .

(٣) المناقب لابن شهر آشوب : ٢ / ٤١ .

(٤) كتاب سليم بن قيس : ٣٢ ، ط مؤسّسة البعثة .


ويبدو أنّ الإمام لم يكتف بجم الآيات القرآنية بل قام أيضاً بترتيبها حسب النزول ، وأشار إلى عامّه وخاصّه ومطلقه ومقيّده ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وعزائمه ورخصه وسننه وآدابه ، كما وأشار إلى أسباب النزول وأملى ستّين نوعاً من أنواع علوم القرآن ، وذكر لكلّ نوعٍ مثالاً يخصّه ، وبهذا العمل الكبير استطاع الإمام أن يحافظ على أهمّ أصل من أصول الإسلام ، وأن يوجّه العقل المسلم نحو البحث عن العلوم التي يزخر بها القرآن ، ليصبح المنبع الرئيسي للفكر والمصدر المباشر الذي تستمد منه الإنسانية ما تحتاجه في حياتها .

إنّ أمير المؤمنين كان جديراً بما فعل ، فإنّه قال :ما نزلت على رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم آية من القرآن إلاّ أقرأنيها وأملاها عليَّ فكتبتها بخطّي ، وعلّمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها ، ودعا الله عزّ وجلّ أن يعلّمني فهمها ، فما نسيت آيةً من كتاب الله عزّ وجلّ ولا علماً أملاه عليّ فكتبته وما ترك شيئاً علّمه الله عز وجل من حلال وحرام ولا أمر ولا نهي وما كان أو يكون من طاعة أو معصية إلاّ علّمنيه وحفظته ، فلم أنس منه حرفاً واحداً (١) .

من مواقف الإمام عليه السلام في عهد أبي بكر :

قال الإمام عليه السلام :( فو الله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم عن أهل بيته ، ولا أنّهم مُنَحّوهُ عنّي من بعده ، فما راعني إلاّ انثيال الناس إلى أبي بكر يبايعونه ، فأمسكت بيدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمّد ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به أعظم من فوت ولايتكم التي هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل

ــــــــــــ

(١) كفاية الطالب للكنجي : ١٩٩ ، والاتقان للسيوطي : ٢ / ١٨٧ ، وبحار الأنوار : ٩٢ / ٩٩ .


وزهق واطمأن الدين وتنهنه )(١) .

كلّ الأحداث التي جرت بعد وفاة الرسول صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم وما سادها من أجواء المشاحنات وما حفّها من ابتعاد عن الحقّ وانجراف في غير الطريق الذي كان على المسلمين سلوكه لم تَنس عليّاً أنّه الوصيّ على هذه الأُمة وعلى تطبيق الرسالة الإسلامية .

كانت بيعة أبي بكر قد استلبت حقّ الإمام في إدارة شؤون الأُمة مباشرة واضطرّته إلى أن يعتزل إلى حين فإنّ وصايا الرسول صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم له وعهده إليه بالتكليف الإلهي برعاية الأُمة ثمّ حرصه العميق على الرسالة الإسلامية والمجتمع من التمزّق والضياع جعل من أمير المؤمنين القدوة المُثلى للمدافعين عن الكيان الإسلامي في كل الميادين .