ورغم ثقل الحمى وألم المرض خرج النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم مستنداً على علي عليه السلام والفضل بن العباس ليصلي بالناس وليقطع بذلك الطريق على الوصوليين الذين خطّطوا لمصادرة الخلافة والزعامة التي طمحوا لها من قبل حيث تمرّدوا على أوامر الرسول صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم بالخروج مع جيش أُسامة بكل بساطة والتفت النبيّ ـ بعد الصلاة ـ إلى الناس فقال:(أيها الناس سُعّرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وإني والله ما تمسكون عليّ بشيء، إني لم أحلّ إلا ما أحلّ الله، ولم اُحرّم إلا ما حرّم الله) (١) فأطلق بقوله هذا تحذيراً آخر أن لا يعصوه وإن لاحت في الأفق النوايا السيئة التي ستجلب الويلات للأُمة حين يتزعّمها جهّالها.

واشتد مرض النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم واجتمع الصحابة في داره ولحق بهم من تخلّف عن جيش أُسامة فلامهم النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم على تخلّفهم واعتذروا بأعذار واهية. وحاول النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم بطريقة أخرى أن يصون الأمة من التردّي والسقوط فقال لهم: ايتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده، فقال عمر ابن الخطاب: إنّ رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله (٢) .

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ٢ / ٩٥٤، الطبقات الكبرى: ٢ / ٢١٥.

(٢) صحيح البخاري كتاب العلم باب كتابة العلم وكتاب الجهاد باب جوائز الوفد.


وهكذا وقع التنازع والاختلاف وقالت النسوة من وراء الحجاب: إئتوا رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم بحاجته. فقال عمر: اسكتن فإنكن صويحبات يوسف إذا مرض عصرتنّ أعينكن وإذا صحّ أخذتنّ بعنقه، فقال رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم :هن خير منكم (١) .

ثم قال صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم :قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع .

وكم كانت الأمة بحاجة ماسة إلى كتاب الرسول صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم هذا، حتى أن إبن عباس كان يأسف كلما يذكر ذلك ويقول: الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله(٢) .

ولم يصرّ نبي الرحمة على كتابة الكتاب بعد اختلافهم عنده خوفاً من تماديهم في الإساءة وإنكارهم لما هو أكبر، فقد علم صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم بما في نفوسهم، وحين راجعوه ثانية بشأن الكتاب قال صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم :(أبعد الذي قلتم؟!) (٣) وأوصاهم ثلاث وصايا، لكن كتب التأريخ لم تذكر سوى اثنتين منها وهما: إخراج المشركين من جزيرة العرب وإجازة الوفد كما كان يجيزهم.

وعلّق السيد محسن الأمين العاملي على ذلك قائلاً: والمتأمل لا يكاد يشكّ في أن الثالثة سكت عنها المحدّثون عمداً لا نسياناً وأنّ السياسة قد اضطرتهم إلى السكوت عنها وتناسيها وأنّها هي طلب الدواة والكتف ليكتبها لهم(٤) .