اجتمع زعماء نصارى نجران وحكماؤهم يتدارسون أمر كتاب النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم الذي يدعوهم فيه إلى الإسلام. ولم يتوصلوا إلى رأي قاطع إذ كانت في أيديهم تعاليم تؤكد وجود نبي بعد عيسى عليه السلام ، وما ظهر من محمد فهو يشير إلى نبوّته. من هنا قرّروا أن يرسلوا وفداً يقابل شخص النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم ويحاوره.

واستقبل النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم الوفد الكبير وقد بدى عليه عدم الرضا لمظهرهم الذي كان يحمل طابع الوثنية، فقد كانوا يرتدون الديباج والحرير ويلبسون الذهب ويحملون الصلبان في أعناقهم. ثم غدوا عليه ثانية وقد بدّلوا مظهرهم فرحّب بهم واحترمهم وفسح لهم المجال ليمارسوا طقوسهم(٢) .

ثم عرض عليهم الإسلام وتلا عليهم آيات من القرآن فامتنعوا وكثر الحجاج معهم، فخلصوا إلى أن يباهلهم النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم وكان ذلك بأمر من الله عزّ وجلّ واتفقوا على اليوم اللاحق موعداً.

ــــــــــــ

(١) الكافي: ١ / ٣٢٦، الإرشاد: ٣٧، الواقدي: ٣ / ١٠٧٧، خصائص النسائي: ٢٠، صحيح الترمذي: ٢ / ١٨٣، مسند أحمد: ٣ / ٢٨٣، فضائل الخمسة من الصحاح الستة: ٢ / ٣٤٣.

(٢) السيرة الحلبية: ٣ / ٢١١، السيرة النبوية: ١ / ٥٧٤.


وخرج إليهم رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم وهو يحمل الحسين وبيده الحسن وخلفه ابنته فاطمة وابن عمّه علي بن أبي طالب امتثالاً لأمر الله تعالى الذي نصّ عليه الذكر الحكيم قائلاً: ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (١) ولم يصحب سواهم أحداً من المسلمين ليثبت للجميع صدق نبوته ورسالته وهنا قال أسقف نجران: يا معشر النصارى اني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني.

وحين أبوا أن يباهلوا النبي وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين قال لهم الرسول:أمّا إذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين ، فأبوا، فقال :إني أناجزكم القتال . فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردّنا عن ديننا على أن نؤدي إليك في كل عام ألفي حلّة، ألفاً في صفر، وألفاً في رجب، وثلاثين درعاً عادية من حديد، فصالحهم على ذلك، وقال:والذي نفسي بيده إنّ الهلاك قد تدلّى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأصل نجران وأهله حتى الطّير على رؤوس الشّجر ، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا. فرجعوا إلى بلادهم دون أن يسلموا(٢) .

وروي أن السيد والعاقب من زعمائهم لم يلبثا إلاّ يسيراً حتى عادا إلى النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم ليعلنا إسلامهما (٣) .

ــــــــــــ

(١) آل عمران (٣) : ٦١.

(٢) التفسير الكبير (للرازي): ٨ / ٨٥ .

(٣) الطبقات الكبرى: ١ / ٣٥٧.