إن مرجعية العلماء وقيادتهم للشيعة بعد الغيبة الكبرى التي ابتدأت عام(٣٢٩ هـ ) بوفاة الوكيل الرابع(١) للإمام المهدي عليه السلام كانت تأسيساً حيويّاً من قبل الأئمة المعصومين عليهم السلام وبأمر من الله ورسوله، فهم الذين أمروا الشيعة بالرجوع إلى العلماء الفقهاء الذين تربّوا في مدرستهم الرسالية لأخذ معالم دينهم عنهم، وهذا المفهوم قد أعطاه الإمام الصادق عليه السلام صبغته التشريعية بقوله عليه السلام :

«ينظر من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنما استخفّ بحكم الله وعلينا ردّ، والرادّ علينا رادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله» (٢) .

وقد استمرّ الأئمة عليهم السلام على هذا النهج وقاموا لتحقيق هذه المهمّة بتربية الفقهاء الأمناء على المنهج العلمي السليم الذي رسموا معالمه وتفاصيله بالتدريج، وتواصلت جهودهم رغم كل الظروف العصيبة بعد عصر الإمام الصادق عليه السلام .

ثم كان للخطوات التي اتخذها الإمام الهادي عليه السلام الدور البارز في إعطاء الصيغة الاجتماعية الكاملة لمرجعية العلماء، فقد قال عليه السلام :لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم عليه السلام من العلماء الداعين إليه والدالّين عليه، والذابّين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن

ــــــــــــ

(١) علي بن محمد السمري، يراجع كشف الغمة: ٣ / ٢٠٧.

(٢) الكافي: ١/٥٤ ح ١٠ و ٧/٤١٢ ح ٥ والتهذيب: ٦/٢١٨ ح ٥١٤ و ٣٠١ ح ٨٤٥ و عنهما في وسائل الشيعة: ٢٧/١٣٦ ح ١ ب ١١.


فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلاّ ارتدّ عن دين الله، ولكنهم الذين يمسكون أزمّة قلوب ضعفاء شيعتنا كما يمسك صاحب السفينة سكّانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عَزَّ وجَلَّ (١) .

إن الأساس والمرتكز الذي تقوم عليه فكرة إرجاع الأمة إلى الفقهاء العدول هو: «أن الأجيال المسلمة تحتاج باستمرار إلى المرشد والموجه والمفكّر المُدَّبر كي يعطيهم تعاليم دينهم ويرتفع بمستوى إيمانهم وعقيدتهم ويشرح لهم إسلامهم ويوجههم في سلوكهم إلى العدل والصلاح ورضا الله عَزَّ وجَلَّ»(٢) .

ووفقاً لذلك كان ما اتخذه الإمام العسكري عليه السلام من مواقف ايجابية بالنسبة للعلماء ورواة الحديث الثقاة المأمونين على حلال الله وحرامه وإرجاع شيعته إليهم يعتبر تمهيداً أساسيّاً لعصر الغيبة، وتأكيداً لفكرة المرجعية الشاملة إلى جانب نظام الوكلاء الثقاة المأمونين من شيعته والذي كان من مهامّه إرجاع عامة الطائفة إلى العلماء منهم.

كما كان احتجابه عن الشيعة واتخاذ المراسلات والتواقيع الخارجة عنه سبيلاً آخر للتمهيد أيضاً ـ كما عرفت ـ فقد جاء عنه عليه السلام في العمري وابنه محمد:العمري وابنه ثقتان فما أدّيا إليك فعني يؤديان وما قالا فعني يقولان فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان المأمونان (٣) .

وممّا يدل على أن الإمام العسكري عليه السلام كان يوجّه القواعد الشعبية للرجوع إلى الفقهاء وتقليدهم وأخذ معالم دينهم عنهم ما جاء عنه عليه السلام :

«فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه

ــــــــــــ

(١) الاحتجاج: ٢ / ٢٦٠.

(٢) الغيبة الصغرى للصدر: ٢١٩.

(٣) الغيبة الصغرى: ٢١٩.


فللعوام أن يقلّدوه» (١) .

وبهذه الخطوات أكمل الإمام العسكري عليه السلام الدور الموكل إليه والمناط به في هذه المرحلة المهمة من تأريخ الرسالة الإسلامية، فقد أنشأ مدرسة علمية لها الدور الأكبر في حفظ تراث أهل البيت الرسالي ومبادئ الإسلام أوّلاً، ومن ثم كان لها الأثر الكبير في نشر فكرة الغيبة وتهيئته الذهنية العامة لتقبّلها ثانياً، كما كان لها مساهمة فعّالة في توجيه شيعة الإمام عليه السلام بالرجوع إلى الفقهاء الذين هم حصن الإسلام الواقي للمسلمين من الأعداء ثالثاً.

وبعد الغيبة الكبرى ظهرت الآثار الايجابية لمدرسة الإمام العسكري عليه السلام وتعاليمه ووصاياه في التزام الشيعة وأتباع أهل البيت عليهم السلام بخط المرجعية الرشيدة.

ويعدّ مبدأ الاجتهاد والتقليد عند الإمامية مظهراً لواقعية هذا المذهب في قدرته على الحفاظ على روح التشريع وحيويّة الرسالة الإسلامية بعد غيبة الإمام المعصوم عليه السلام والى اليوم الذي يملأ الله به الأرض عدلاً وقسطاً بعدما تملأ جوراً وظلماً.