قل لمن قلّ عزاؤه، و طال بكاؤه، و دام عناؤه، و بان صبره، و تقسم فكره، و التبس عليه أمره، من فقد الأولاد، و مفارقة الآباء و الاجداد، و الامتعاض بشماتة الحسّاد: أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ
|
تعزّ فكلّ للمنيّة ذائق |
|
و كلّ ابن انثى للحياة مفارق |
|
فعمر الفتى للحادثات ذريئة |
|
و تناهبه ساعاتها و الدّقايق |
|
كذا نتفانى واحدا بعد واحد |
|
و تطرقنا بالحادثات الطوارق |
|
|
|
|
فحسّن الأعمال، و جمّل الأفعال، و قصّر الآمال الطوال، فما عن سبيل المنية مذهب، و لا عن سيف الحمام مهرب، و لا إلى قصد النّجاة مطلب، فيا أيّها الانسان المتسخّط على الزّمان، و الدّهر الخوّان، مالك و الخلود إلى دار الأحزان، و السكون إلى دار الهوان، و قد نطق القرآن بالبيان الواضح في سورة الرّحمن: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ
|
و فيم و حتّى م الشّكاية و الرّدى |
|
جموح لآجال البريّة لاحق |
|
فكلّ ابن انثى هالك و ابن هالك |
|
لمن ضمّنته غربها و المشارق |
|
فلا بدّ من إدراك ما هو كائن |
|
و لا بدّ من إتيان ما هو سابق |
|
|
|
|
فالشّباب للهرم، و الصحّة للسّقم، و الوجود للعدم، و كلّ حيّ لا شكّ مخترم، بذلك جرى القلم، على صفحة اللوح في القدم، فما هذا التلهّف و النّدم، و قد خلت من قبلكم الامم
|
أ ترجو نجاة من حياة سقيمة |
|
و سهم المنايا للخليقة راشق |
|
سرورك موصول بفقدان لذّة |
|
و من دون ما تهواه تأتى العوائق |
|
و حبّك للدّنيا غرور و باطل |
|
و في ضمنها للراغبين البوائق |
|
|
|
|
أ في الحياة طمع، أم إلى الخلود نزع؛ أم لما فات مرتجع، و رحى المنون دائرة، و فراسها غائرة، و سطواتها قاهرة، فقرب الزّاد، ليوم المعاد، و لا تتوطّ على غير مهاد و تعمّد الصّواب، و حقّق الجواب، فلكلّ أجل كتاب، يمحو اللّه ما يشاء و يثبت و عنده أمّ الكتاب
|
فسوف تلاقي حاكما ليس عنده |
|
سوى العدل لا يخفى عليه المنافق |
|
يميّز أفعال العباد بلطفه |
|
و يظهر منه عند ذاك الحقائق |
|
فمن حسنت أفعاله فهو فايز |
|
و من قبحت أفعاله فهو زاهق |
|
|
|
|
أين السّلف الماضون، و الأهلون و الأقربون، و الأوّلون و الآخرون، و الأنبياء و المرسلون، طحنتهم و اللّه المنون، و توالت عليهم السّنون، و فقدتهم العيون، و إنّا إليهم صائرون، فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون
|
إذا كان هذا نهج من كان قبلنا |
|
فانّا على آثارهم نتلاحق |
|
فكن عالما أن سوف تدرك من مضى |
|
و لو عصمتك الرّاسيات الشّواهق |
|
فما هذه دار المقامة فاعلمن «فاعملن» |
|
و لو عمّر الانسان ما ذرّ شارق |
|
|
|
|
أين من شقّ الأنهار، و غرس الاشجار، و عمر الدّيار، ألم تمح منهم الآثار، و تحلّ بهم دار البوار، فاخش الجوار، فلك اليوم بالقوم اعتبار، فانّما الدّنيا متاع و الآخرة هي دار القرار
|
تخرّمهم ريب المنون فلم تكن |
|
لتنفعهم جنّاتهم و الحدائق |
|
و لا حملتهم حين ولّوا بجمعهم |
|
نجائبهم و الصّافات السّوابق |
|
و راحوا عن الأموال صفرا و خلّفوا |
|
ذخايرهم بالرّغم منهم و فارقوا |
|
|
|
|
أين من بنى القصور و الدّساكر، و هزم الجيوش و العساكر، و جمع الأموال و حاز الآثام و الجرائر، أين الملوك و الفراعنة و الأكاسرة و السّياسنة، أين العمّال و الدّهاقنة أين ذووا النواحي و الرّساتيق، و الأعلام و المناجيق، و العهود و المواثيق
|
كأن لم يكونوا أهل عزّ و منعة |
|
و لا رفعت أعلامهم و المناجق |
|
و لا سكنوا تلك القصور التي بنوا |
|
و لا اخذت منهم بعهد مواثق |
|
و صاروا قبورا دارسات و أصبحت |
|
منازلهم تسفى عليها الخوافق |
|
|
|
|
ما هذه الحيرة و السّبيل واضح؛ و المشير ناصح، و الصواب لائح، عقلت فاغفلت، و عرفت فانكرت، و علمت فاهملت، هذا هو الدّاء الذي عزّ دواؤه، و المرض الذي لا يرجى شفاؤه، و الأمل الذي لا يدرك انتهاؤه، أ فأمنت الأيّام؛ و طول الأسقام، و نزول الحمام، و اللّه يدعو إلى دار السّلام
|
لقد شقيت نفس تتابع غيّها |
|
و تصدف عن إرشادها و تفارق |
|
و تأمل ما لا يستطاع بحيلة (بحمله خ) |
|
و تعصيك إن خالفتها و تشاقق |
|
و تصغى إلى قول الغويّ و تنثني |
|
و تعرض عن تصديق من هو صادق |
|
|
|
|
فيا عاقلا راحلا، و لبيبا جاهلا، و متيقّظا غافلا، أتفرح بنعيم زائل، و سرور حائل، و رفيق خاذل، فيا أيها المفتون بعمله، الغافل عن حلول أجله، و الخائض في بحار زلله، ما هذا التقصير و قد و خطك القتير، و وافاك النذير، و إلى اللّه المصير
|
طلابك أمر لا يتمّ سروره |
|
و جهدك باستصحاب من لا يوافق |
|
و أنت كمن يبني بناء و غيره |
|
يعاجله في هدمه و يسابق |
|
و ينسج آمالا طوا لا بعيدة |
|
و يعلم أنّ الدهر للنسج خارق |
|
|
|
|
ليست الطريقة لمن ليس له الحقيقة، و لا يرجع إلى خليقة؛ إلى كم تكدح و لا تقنع و تجمع و لا تشبع؛ و توفر لما تجمع، و هو لغيرك مودع، ما ذا الرّأى العازب، و الرشد الغايب، و الأمل الكاذب، ستنقل عن القصور، و ربّاب الخدور، و الجذل و السّرور إلى ضيق القبور، و من دار الفناء إلى دار الحبور، كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ
أُجُوركم يوم القيامة
|
فعالك هذا غرّة و جهالة |
|
و تحسب يا ذا الجهل أنك حاذق |
|
تظنّ بجهل منك أنك راتق |
|
و جهلك بالعقبى لدينك فائق |
|
توخيّك من هذا أدلّ دلالة |
|
و أوضح برهانا بأنّك مائق |
|
|
|
|
عجبا لغافل عن صلاحه، مبادر إلى لذاته و أفراحه، و الموت طريده «في» مسائه و صباحه فيا قليل التحصيل، و يا كثير التعطيل، و يا ذا الأمل الطويل، أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ، بناؤك للخراب، و مالك للذّهاب، و أجلك إلى اقتراب
|
و أنت على الدّنيا حريص مكاثر |
|
كأنّك منها بالسّلامة واثق |
|
تحدّثك الاطماع أنّك للبقا |
|
خلقت و أنّ الدّهر خلّ موافق |
|
كأنّك لم تبصر اناسا ترادفت |
|
عليهم بأسباب المنون اللّواحق |
|
|
|
|
هذه حالة من لا يدوم سروره، و لا تتمّ اموره، و لا يفكّ أسيره، أتفرح بمالك و نفسك و ولدك و غرسك «عرسك»، و عن قليل تصير إلى رمسك، و أنت بين طيّ و نشر، و غنى و فقر، و وفاء و غدر، فيا من القليل لا يرضيه، و الكثير لا يغنيه، اعمل ما شئت انّك ملاقيه، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ
|
سيقفر بيت كنت فرحة أهله |
|
و يهجر مثواك الصّديق المصادق |
|
و ينساك من صافيته و ألفته |
|
و يجفوك ذو الودّ الصّحيح الموافق |
|
على ذا مضى النّاس اجتماع و فرقة |
|
و ميت و مولود و قال و وامق |
|
|
|
|
افّ لدنيا لا يرقى سليمها، و لا يصحّ سقيمها، و لا يندمل كلومها، و عودها كاذبة، و سهامها غير صائبة، و آمالها خائبة، لا تقيم على حال، و لا تمتّع بوصال، و لا تسرّ بنوال
|
و تلك لمن يهوى هواها مليكة |
|
تعبّده أفعالها و الطرائق |
|
يسرّ بها من ليس يعرف غدرها |
|
و يسعى إلى تطلابها و يسابق |
|
اذا عدلت جارت على اثر عدلها |
|
فمكروهة أفعالها و الخلايق |
|
|
|
|
فيا ذا السّطوة و القدرة، و المعجب بالكثرة، ما هذه الحيرة و الفترة، لك فيمن مضى عبرة، و ليؤذن الغافلون عما إليه يصيرون، إذا تحقّقت الظنون، و ظهر السّر المكنون و تندمون حين لا تقالون، ثمّ إنّكم بعد ذلك لميّتون
|
سيندم فعّال على سوء فعله |
|
و يزداد منه عند ذاك التّشاهق |
|
إذا عاينوا من ذي الجلال اقتداره |
|
و ذو قوّة من كان قد ما يداقق |
|
هنالك تتلو كلّ نفس كتابها |
|
فيطفو ذو عدل و يرسب فاسق |
|
|
|
|
إلى كم ذا التّشاغل بالتجاير و الأرباح، إلى كم ذا التّهور بالسّرور و الأفراح، و حتّام التغرير بالسّلامة في مراكب النّياح، من ذا الذي سالمه الدّهر فسالم، و من ذا الذي تاجره الزّمان فغنم، و من ذا الذي استرحم الأيّام فرحم، اعتمادك على الصّحة و السّلامة خرق، و سكونك إلى المال و الولد حمق، و الاغترار بعواقب الامور خلق، فدونك و حزم الامور، و التّيقظ ليوم النّشور، و طول اللبث في صفحات القبور، فلا تغرنّكم الحياة الدّنيا و لا يغرنّكم باللّه الغرور
|
فمن صاحب الأيام سبعين حجّة |
|
فلذّاتها لا شكّ منه طوالق |
|
فعقبى حلاوات الزّمان مريرة |
|
و إن عذبت حينا فحينا خرابق |
|
و من طرفته الحادثات بويلها |
|
فلا بدّ أن تاتيه فيها الصّواعق |
|
|
|
|
فما هذه الطمأنينة و أنت مزعج، و ما هذه الولوج و أنت مخرج، جمعك إلى تفريق و رفوك (و فرك خ) إلى تمزيق، و سعتك إلى ضيق، فيا أيها المفتون، و الطامع بما لا يكون، أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ
|
ستندم عند الموت شرّ ندامة |
|
إذا ضمّ أعضاك الثرى و المطابق |
|
و عاينت أعلام المنية و الرّدى |
|
و وافاك ما تبيضّ منه المفارق |
|
و صرت رهينا في ضريحك مفردا |
|
و باعدك الجار القريب الملاصق |
|
|
|
|
فيا من عدم رشده، و جار قصده، و نسي ورده، إلى متى تواصل بالذّنوب و أوقاتك محدودة، و أفعالك مشهودة، أ فتعول على الاعتذار، و تهمل الأعذار و الانذار، و أنت مقيم على الاصرار، و لا تحسبنّ اللّه غافلا عمّا يعمل الظالمون إنّما يؤخّرهم ليوم تشخص فيه الأبصار
|
إذا نصب الميزان للفصل و القضا |
|
و إبلس محجاج و اخرس ناطق |
|
و اجّجت النيران و اشتدّ غيظها |
|
إذا فتحت أبوابها و المغالق |
|
و قطّعت الأسباب من كلّ ظالم |
|
يقيم على اسراره و ينافق |
|
|
|
|
فقدم التّوبة، و اغسل الحوبة، فلا بدّ أن تبلغ إليك النوبة، و حسن العمل قبل حلول الأجل و انقطاع الامل، فكلّ غائب قادم، و كلّ عريب عازم (و كل غريب غارم)، و كلّ مفرط نادم، فاعمل للخلاص قبل القصاص، و الأخذ بالنّواص
|
فانّك مأخوذ بما قد جنيته |
|
و إنّك مطلوب بما أنت سارق |
|
و ذنبك إن أبغضته فمعانق |
|
و مالك ان أحببته فمفارق |
|
فقارب و سدّد و اتّق اللّه وحده |
|
و لا تستقلّ الزّاد فالموت طارق |
|
|
|
|
و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى اللّه، ثمّ توفّى كلّ نفس ما كسبت و هم لا يظلمون
المصدر:
منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة