[حمد الله]


  نَحْمَدُهُ عَلَى مَا أَخَذَ وَأَعْطَى، وَعَلَى مَا أَبْلَى وَابْتَلَى(1)، الْبَاطِنُ لِكُلِّ خَفِيَّة، الْحَاضِرُ لِكُلِّ سَرِيرَة، العَالِمُ بِمَا تُكِنُّ الصُّدُورُ، وَمَا تَخُونُ الْعُيُونُ.
  وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ غَيْرُهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً نَجِيبُهُ وَبَعِيثُهُ(2)، شَهَادَةً يُوَافِقُ فِيهَا السِّرُّ الاِْعْلاَنَ، وَالْقَلْبُ اللِّسَانَ.

منها: [في عظة الناس]


  فَإِنَّهُ وَاللهِ الْجِدُّ لاَ اللَّعِبُ، وَالْحَقُّ لاَ الْكَذِبُ، وَمَا هُوَ إِلاَّ الْمَوْتُ أَسْمَعَ دَاعِيهِ
(3)، وَأَعْجَلَ حَادِيهِ(4)، فَلاَ يَغُرَّنَّكَ سَوَادُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ، فَقَدْ رَأَيْتَ
____________
  1. الابلاء: الاحسان والانعام. والابتلاء: الامتحان.
  2. بَعِيثه: مصطفاه ومبعوثه.
  3. الموت أسمعَ داعِيهِ: أي إن الداعي إلى الموت قد أسمع بصوته كلّ حيّ، فلا حيّ إلاّ وهو يعلم أنه يموت.
  4. أعْجَلَ حَادِيه: أي إنّ الحادي قد أعجَلَ المدبّرين عن تدبيرهم، وأخذهم قبل الاستعداد لرحيلهم.



مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِمَّنْ جَمَعَ الْمَالَ وَحَذِرَ الاِْقْلاَلَ، وَأَمِنَ الْعَوَاقِبَ ـ طُولَ أَمَل وَاسْتِبْعَادَ أَجَل ـ كَيْفَ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَأَزْعَجَهُ عَنْ وَطَنِهِ، وَأَخَذَهُ مِنْ مَأْمَنِهِ، مَحْمُولاً عَلَى أَعْوَادِ الْمَنَايَا يَتَعَاطَى بِهِ الرِّجَالُ الرِّجَالَ، حَمْلاً عَلَى المَنَاكِبِ وَإِمْسَاكاً بِالاَْنَامِلِ.
  أَمَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَأْمُلُونَ بَعِيداً، وَيَبْنُونَ مَشِيداً، وَيَجْمَعُونَ كَثِيراً! أَصْبَحَتْ بُيُوتُهُمْ قُبُوراً، وَمَا جَمَعُوا بُوراً، وَصَارَتْ أَمْوَالُهُمْ لِلْوَارِثِينَ، وَأَزْوَاجُهُمْ لِقَوْم آخَرِينَ، لاَ فِي حَسَنَة يَزِيدُونَ، وَلاَ مِنْ سَيِّئَة يَسْتَعْتِبُونَ! فَمَنْ أَشْعَرَ التَّقْوَى قَلْبَهُ بَرَّزَ مَهَلُهُ
(1)، وَفَازَ عَمَلُهُ.
  فَاهْتَبِلُوا(2)
هَبَلَهَا، وَاعْمَلُوا لِلْجَنَّةِ عَمَلَهَا، فَإِنَّ الدُّنْيَا لَمْ تُخْلَقْ لَكُمْ دَارَ مُقَام، بَلْ خُلِقَتْ لَكُمْ مَجَازاً لِتَزَوَّدُوا مِنْهَا الاَعْمَالَ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ; فَكُونُوا مِنْهَا عَلى أَوْفَاز(3)، وَقَرِّبُوا الظُّهُورَ(4) لِلزِّيَالِ(5).
 
____________
  1. بَرّزَ الرجل على أقرانه: أي فاقهم. والمَهَل: التقدم في الخير، أي فاق تقدمه إلى الخير على تقدم غيره.
  2. اهْتَبَلَ الصيد: طلبه. والضمير في «هَبَلَها» للتقوى لا للدنيا. أي: اغنموا خيرَ التقوى.
  3. الوَفْز ـ بتسكين الفاء وفتحها ـ : العَجَلَة، وجمعه أوْفاز، أي: كونوا منها على استعجال.
  4. الظهور: يراد بها هنا ظهور المطايا.
  5. الزِّيال: الفراق.




المصدر:
نهج البلاغة