من المهام التي اشترك فيها الائمة عليهم السلام دعوتهم إلى الإمام الآتي بعدهم. وقد سار الإمام الجواد عليه السلام على منهج آبائه في قضية الدعوة إلى الإمام القادم بعده وترسيخ ذلك عند الطليعة المؤمنة من الأمة، وفيما يأتي أمثلة على هذا الأمر عند الإمام عليه السلام :

أ ـ عن الخيراني عن أبيه أنه قال: كنت ألزم باب أبي جعفر عليه السلام للخدمة التي وُكّلت بها، وكان أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري يجيء في السحر من آخر كل ليلة ليتعرف خبر علّة أبي جعفر عليه السلام ، وكان الرسول الذي يختلف بين أبي جعفر وبين الخيراني إذا حضر قام أحمد وخلا به.

ـــــــــ

(١) كشف الغمة: ٢ / ٣٦٣.


قال الخيراني: فخرج ذات ليلة وقام أحمد بن محمد بن عيسى عن المجلس، وخلا بي الرسول، واستدار أحمد فوقف حيث يسمع الكلام، فقال الرسول: إن مولاك يقرأ عليك السلام، ويقول لك:(إني ماض، والأمر صائر إلى ابني علي، وله عليكم بعدي ما كان لي عليكم بعد أبي) . ثم مضى الرسول ورجع أحمد إلى موضعه، فقال لي: ما الذي قال لك ؟ قلتُ: خيراً، قد سمعتُ ما قال، وأعادَ عليّ ما سمع، فقلتُ له: قد حرّم الله عليك ما فعلتَ، لأن الله تعالى يقول:( وَلَا تَجَسَّسُوا ) (١) ، فإذا سمعت فاحفظ الشهادة لعلّنا نحتاج إليها يوماً ما، وإياك أن تظهرها إلى وقتها.

قال: وأصبحت وكتبتُ نسخة الرسالة في عشر رقاع، وختمتها ودفعتها إلى عشرة من وجوه أصحابنا، وقلتُ: إن حدث بي حدثُ الموت قبل أن أطالبكم بها فافتحوها واعملوا بما فيها.

فلمّا مضى أبو جعفر عليه السلام لم أخرج من منزلي حتى عرفتُ أن رؤساء العصابة قد اجتمعوا عند محمد بن الفرج(٢) يتفاوضون في الأمر. وكتب إليَّ محمد بن الفرج يُعلِمُني باجتماعهم عنده ويقول: لولا مخافةُ الشهرة لصرتُ معهم إليك، فأحب أنْ تركب إلي. فركبتُ وصرتُ إليه، فوجدتُ القومَ مجتمعين عنده، فتجارينا في الباب، فوجدت أكثرهم قد شكّوا، فقلتُ لمن عنده الرقاع ـ وهم حضور ـ: أخرجوا تلك الرقاع، فأخرجوها، فقلت لهم: هذا ما أمرت به.

فقال بعضهم: قد كنّا نحبّ أن يكون معك في هذا الأمر آخر ليتأكّد القول.

فقلتُ لهم: قد أتاكم الله بما تحبّون، هذا أبو جعفر الأشعري يشهد لي

ـــــــــ

(١) الحجرات (٤٩): ١٢.

(٢) هو محمد بن الفرج الرُخّجي، من أصحاب الرضا والجواد والهاديعليهم‌السلام .


بسماع هذه الرسالة فاسألوه، فسأله القوم فتوقّف عن الشهادة، فدعوته إلى المباهلة، فخاف منها، وقال: قد سمعتُ ذلك، وهي مكرمةٌ كنتُ أُحبُّ أن تكون لرجل من العرب، فأما مع المباهلة فلا طريق إلى كتمان الشهادة، فلم يبرح القوم حتى سلّموا لأبي الحسن عليه السلام (١) .

ب ـ عن إسماعيل بن مهران، قال: (لمّا خرج أبو جعفر عليه السلام من المدينة إلى بغداد في الدفعة الأولى من خرجتيه، قلت له عند خروجه: جُعلت فداك إنّي أخاف عليك في هذا الوجه، فإلى من الأمر بعدك ؟ فكرّ بوجهه إلي ضاحكاً وقال:ليس الغيبة حيث ظننتَ في هذه السنة ، فلمّا أُخرج به الثانية إلى المعتصم صرت إليه، فقلتُ له: جُعلت فداك أنت خارج، فإلى من هذا الأمر من بعدك ؟ فبكى حتى اخضلّت لحيته، ثم التفت إلي، فقال:عند هذه يُخاف عليّ، الأمرُ من بعدي إلى ابني علي )(٢) .

ج ـ عن محمد بن الحسين الواسطي أنه سمع أحمد بن أبي خالد مولى أبي جعفر يحكي أنه أشهده على هذه الوصية المنسوخة:

(شهد أحمد بن أبي خالد مولى أبي جعفر أن أبا جعفر محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام أشهده أنه أوصى إلى علي ابنه بنفسه وإخوانه وجعل أمر موسى(٣) إذا بلغ إليه وجعل عبد الله بن المساور قائماً على تركته من الضياع والأموال والنفقات والرقيق وغير ذلك إلى أن يبلغ علي بن محمد، صيّر عبد الله بن المساور ذلك اليوم إليه، يقوم بأمر نفسه، وإخوانه ويصيّر أمر موسى إليه، يقوم لنفسه بعدهما على شرط أبيهما

ـــــــــ

(١) الإرشاد: ٢ / ٢٩٨ ـ ٣٠٠.

(٢) أصول الكافي: ١ / ٣٢٣.

(٣) يعني ابنه الملقب بالمبرقع المدفون بقم.


في صدقاته التي تصدق بها وذلك يوم الأحد لثلاث ليال خلون من ذي الحجة سنة عشرين ومائتين وكتب أحمد بن أبي خالد شهادته بخطّه وشهد الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وهو الجوّاني على مثل شهادة أحمد بن أبي خالد في صدر هذا الكتاب وكتب شهادته بيده وشهد نصر الخادم وكتب شهادته بيده)(١) .

قال الطبرسي بعد نقل هذه النصوص الثلاثة: والأخبار في هذا الباب كثيرة، وفي إجماع العصابة على إمامته وعدم من يدّعي فيه إمامة غيره غناء عن إيراد الأخبار في ذلك، هذا وضرورة أئمتنا عليهم السلام في هذه الأزمنة في خوفهم من أعدائهم وتقيّتهم منهم أُحوجت شيعتهم في معرفة نصوصهم على من بعدهم إلى ما ذكرناه من الاستخراج حتى أنّ أوكد الوجوه في ذلك عندهم دلائل العقول الموجبة للإمامة وما اقترن إلى ذلك من حصولها في ولد الحسين عليه السلام ، وفساد أقوال ذوي النحل الباطلة وبالله التوفيق(٢) .

٥ ـ الإمام الجواد عليه السلام وقضية الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):

قضية الإمام المهدي عجَّل الله فرجه من القضايا الأساسية في المسيرة الإسلامية والمتتبع لآثار الرسول صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم والأئمة عليهم السلام لا يجد أحداً منهم غفل عن الدعوة إليها أو تجاهلها.

وعلى هذا المنهج سار الإمام الجواد عليه السلام فطرح قضية المهدي (عج) على الأمة قاصداً من ذلك تركيز هذا المفهوم في أذهانها من جهة وإعدادها لاستقبال يومه من جهة ثانية، ونذكر فيما يأتي نماذج من هذه الدعوة:

ـــــــــ

(١) أصول الكافي: ١ / ٢٦١.

(٢) إعلام الورى: ٣٣٩.


١ ـ عن عبد العظيم بن عبد الله الحسنيرضي‌الله‌عنه قال: (قلت لمحمد بن علي بن موسى عليهم السلام : يامولاي ! إني لأرجو أن تكون القائم من أهل بيت محمد الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً. فقال عليه السلام :ما منّا إلا قائم بأمر الله، وهاد إلى دين الله. ولكن القائم الذي يطهّر الله به الأرض من أهل الكفر والجحود ويملأها قسطاً وعدلاً هو الذي يخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه، ويحرم عليهم تسميته، وهو سميّ رسول الله وكنيته، وهو الذي تطوى له الأرض، ويذل له كل صعب، يجتمع إليه من أصحابه عدّة أهل بدر: (ثلاثمئة وثلاثة عشر) رجلاً من أقاصي الأرض وذلك قول الله عزَّ وجلَّ: ( أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (١) . فإذا اجتمعت له هذه العدّة من أهل الإخلاص، أظهر الله أمره، فإذا كمل له العقد وهو (عشرة آلاف) رجل، خرج بإذن الله تعالى، فلا يزال يقتل أعداء الله حتى يرضى الله عزَّ وجلَّ) (٢) .

٢ ـ عن أبي تراب عبد الله موسى الروياني، قال:

حدثنا عبد العظيم بن عبد الله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ ابن أبي طالب عليه السلام الحسني قال:

(دخلت على سيدي محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي ابن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام وأنا أريد أن أسأله عن القائم أهو المهدي أو غيره فابتدأني فقال لي:

ـــــــــ

(١) البقرة (٢): ١٤٨.

(٢) الاحتجاج: ٢ / ٤٨١ ـ ٤٨٢.


ياأبا القاسم إن القائم منّا هو المهدي الذي يجب أن ينتظر في غيبته، ويطاع في ظهوره، وهو الثالث من ولدي، والذي بعث محمداً صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم بالنبوّة وخصّنا بالإمامة، إنه لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، وإنّ الله تبارك وتعالى ليصلح له أمره في ليلة، كما أصلح أمر كليمه موسى عليه السلام إذ ذهب ليقتبس لأهله ناراً فرجع وهو رسولٌ نبيٌ ، ثم قال عليه السلام :أفضل أعمال شيعتنا انتظار الفرج )(١) .

٣ ـ عن حمدان بن سليمان قال: حدّثنا الصقر بن أبي دلف، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن عليّ الرضا عليه السلام يقول: (إنّ الإمام بعدي ابني عليّ، أمره أمري، وقوله قولي، وطاعته طاعتي، والإمام بعده ابنه الحسن، أمره أمر أبيه، وقوله قول أبيه، وطاعته طاعة أبيه ، ثم سكت. فقلت له: يابن رسول الله فمن الإمام بعد الحسن ؟ فبكى عليه السلام بكاءً شديداً، ثم قال:إنّ من بعد الحسن ابنه القائم بالحق المنتظر . فقلت له: يابن رسول الله لم سمّي القائم ؟ قال:لأنه يقوم بعد موت ذكره وارتداد أكثر القائلين بإمامته . فقلت له: ولم سمّي المنتظر ؟ قال:لأنّ له غيبة يكثر أيامها ويطول أمدها فينتظر خروجه المخلصون وينكره المرتابون ويستهزئ بذكره الجاحدون، ويكذّب بها الوقّاتون، ويهلك فيها المستعجلون، وينجو فيها المسلمون )(٢)

ـــــــــ

(١) كمال الدين وتمام النعمة: ٣٧٧.

(٢) كمال الدين وتمام النعمة: ٣٧٨.