أشرفت السنة الخامسة على الانقضاء وكانت كل الأحداث والتحركات العسكرية التي خاضها المسلمون تهدف إلى الدفاع عن كيان الدولة الفتيّة، وتوفير الأمن في محيط المدينة وأفرزت الأحداث تنوعاً وتعدداً في الجهات والأطراف المعادية للدين وللدولة الإسلامية. فسعى اليهود لاستثمار هذا التنوع بتجميعه وتمويله وإثارة النزعة العدائية فيه لاستئصال الوجود الإسلامي من الجزيرة، ومن ذلك أنهم أوهموا المشركين الذين تساءلوا عن مدى أفضلية الدين الإسلامي على الشرك ، بأن الوثنية خير من دين الإسلام(١) وتمكنوا من جمع قبائل المشركين وتعبئتهم وسوقهم صوب المدينة عاصمة الدولة الإسلامية. وسرعان ما وصل الخبر إلى مسامع النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم وهو القائد المتحفز اليقظ والمدرك لكل التحركات السياسية، من خلال العيون الثقات.

واستشار النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم أصحابه في معالجة الأمر وتوصلوا إلى فكرة حفر خندق يحصّن الجانب المكشوف من المدينة. وخرج النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم مع المسلمين ليشاركهم في حفر ذلك الخندق بعد تقسيم العمل بينهم وكان يحضّهم بقوله:

ــــــــــــ

(١) كما ورد في قوله تعالى في الآية : ٥١ من سورة النساء.


 (لا عيش إلاّ عيش الآخرة اللهم إغفر للأنصار والمهاجرة) (١) .

ولم يخل الأمر عن دور للمنافقين والمتقاعسين عن العمل رغم الهمة والحماس الذي أظهره المخلصون من المسلمين(٢) .

وأحاطت قوى الأحزاب المشركة البالغة نحو عشرة آلاف مقاتل بالمدينة يمنعها الخندق وتسيطر عليها الدهشة لهذا الأسلوب الدفاعي الذي لم تكن تألفه من قبل. وخرج النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم في ثلاثة آلاف مقاتل ونزل في سفح جبل سلع ووزّع المهام والأدوار لمواجهة الطوارئ.

وبقيت الأحزاب تحاصر المدينة ما يقرب من شهر عاجزين عن اقتحامها، وكانت هناك مواقف رائعة للمسلمين وكان بطلها الأوحد علي بن أبي طالب عليه السلام ، وقد توّج النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم موقف علي بن أبي طالب البطولي عندما خرج لمبارزة صنديد من صناديد العرب ـ هو عمرو بن عبد ود ـ بعد أن أحجم المسلمون عن الخروج إليه بقوله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم :(برز الإيمان كله إلى الشرك كله) (٣) .

وحاول المشركون الاستعانة بيهود بني قريظة بالرغم من انهم كانوا قد تعاهدوا مع رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم أن لا يدخلوا في حرب ضد المسلمين، وتيقّن الرسول القائد صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم من عزيمة اليهود على المشاركة في القتال وفتح جبهة داخليّة ضدّ المسلمين فأرسل إليهم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فرجعوا مؤكدين الخبر فكبّر الرسول صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم قائلاً: (الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين بالفتح) (٤) .

ــــــــــــ

(١) راجع البداية والنهاية لابن كثير: ٤ / ٩٦ ، والمغازي: ١ / ٤٥٣.

(٢) نزلت آيات من القرآن الكريم تفضح السلوك التخاذلي وتدعم مركزية العمل بوجود الرسول القائدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . راجع سورة الأحزاب ، الآيات : ١٢ ـ ٢٠ .

(٣) بحار الأنوار: ٢٠ / ٢١٥. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٣ / ٢٨٣ و ١٤ / ٢٩١ ـ ٢٩٢ و ١٩/٦٣ ـ ٦٤ والسيرة النبوية : ٣ / ٢٨١ وراجع مستدرك الحاكم : ٣ / ٣٢ .

(٤) المغازي: ١ / ٤٥٦ ، بحار الأنوار: ٢٠ / ٢٢٢.