لعبت أجواء الترف والرفاهية دوراً كبيراً في انتشار وتفشي الانحراف الأخلاقي، عند الحاكم ومؤسساته الحكومية وعند الأمة، فكان الحاكم يعيش مظاهر اللهو واللعب والانسياق وراء الشهوات، فهارون أول خليفة لعب بالصوالجة والكرة ورمي النشاب في البرجاس، وأول خليفة لعب الشطرنج من بني العباس(5) .

وكان يجري سباق الخيل فجاء في أحد الأيام فرسه سابقاً فأمر الشعراء ان يقولوا فيه شعراً فسبقهم أبو العتاهية، فأجزل صلته(6) .

وبعض هذه الأمور وان كانت مباحة إلاّ أنها لا تليق بالحاكم الذي يحكم دولة إسلامية مترامية الأطراف، ومعرضة لمخاطر ومؤامرات من قبل أعداء الإسلام.

____________________

(1) مروج الذهب: 3 / 394.

(2) الكامل في التاريخ: 6 / 294.

(3) مروج الذهب: 3 / 443.

(4) تاريخ الطبري: 8 / 551.

(5) تاريخ الخلفاء: 237.

(6) الأغاني: 4 / 43.


وكان مولعاً بالغناء، ومن اهتمامه وتشجيعه للغناء أن جعل للمغنين مراتب وطبقات(1) .

وكان ينفق الأموال والهدايا على المغنين - كما تقدّم - وكان مولعاً بحب ثلاث من الجواري المغنيات حتى انشد شعراً في ذلك قال فيه:

ملك الثلاث الآنسات عناني

وحللن من قلبي بكلِّ مكانِ

مالي تطاوعني البرية كلها

وأطيعهنَّ وهنَّ في عصياني

ما ذاك إلاَّ أن سلطان الهوى

وبه غُلبت غرزن من سلطاني(2)

وفي الوقت الذي يذهب الآف الجنود ضحايا في الغزوات تجده لا يكترث من كثرة القتلى والمعوّقين وإنّما يؤلمه موت جارية من جواريه تسمى هيلانة، فيرثيها بأبيات شعر:

فلها تبكي البواكي

ولها تشجي المراثي

خلقت سقماً طويلاً

جعلت ذاك تراثي(3)

وكان مدمناً على شرب الخمر وربما كان يتولّى بنفسه سقاية ندمائه(4) .

وكان من حبّه للضحك والفكاهة أن اختص بابن أبي مريم المدني، وكان لا يصبر عن فراقه ولا يملّ من محادثته، وبلغ من خاصته به أن بوّأه منزلاً في قصره، وخلطه بحريمه وبطانته ومواليه وغلمانه(5) .

وكان لا يتحرّج من سماع ألفاظ الفحش والبذاء في مجلسه، فحينما أهدى له العباس بن محمد إناءً من خزف فيه مسك وعنبر وهبه هارون إلى

____________________

(1) تاريخ الخلفاء: 237.

(2) الأغاني: 16 / 345، فوات الوفيات: 4 / 226

(3) فوات الوفيات: 4 / 226.

(4) حياة الإمام علي بن موسى الرضا: 2 / 224.

(5) تاريخ الطبري: 8 / 349.


ابن أبي مريم، فتألم العباس وقال لابن أبي مريم: أمه فاعلة إن دهن به إلاَّ إسته، فضحك هارون، ثم وثب ابن أبي مريم، وأدخل يده في الإناء ثم دهن بها عورته وجميع جوارحه ثم أمر غلامه أن يذهب بما تبقى إلى زوجته وأن يقول لها: ادهني بها حرك إلى أن انصرف فأ... وهارون يضحك وهو يسمع ألفاظ الفحش، ولم يكتف بذلك وإنّما وهب لابن أبي مريم مائة ألف درهم(1) .

ولما وصل الأمين إلى منصبه في رئاسة الحكومة طلب الخصيان وابتاعهم وغالى فيهم، فصيّرهم لخلوته ليله ونهاره... وفرض لهم فرضاً، ثم وجّه إلى جميع البلدان في طلب الملهّين، وضمّهم إليه، وأجرى عليهم الأرزاق، واحتجب عن أخويه وأهل بيته، واستخف بهم وبقوّاده، وقسم ما في بيوت الأموال وما بحضرته من الجواهر في خصيانه، وجلسائه، ومحدثيه، وأمر ببناء مجالس لمتنزهاته، ومواضع خلواته ولهوه ولعبه، وعمل خمس حرّاقات في دجلة على صورة الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس، وأنفق في عملها مالاً عظيماً(2) .

وأمر أن يفرش له على دكان في ساحة مفتوحة، ففرش عليها أفخر الفراش، وهُيّئ من آنية الذهب والفضة والجواهر أمر عظيم، وأمر قيّمة جواريه أن تهيّئ له مائة جارية صانعة فتصعد إليه عشراً عشراً بأيديهن العيدان، يغنّين بصوت واحد...(3) .

وذكر الأمين عند الفضل بن سهل بخراسان فقال: كيف لا يستحل قتل محمد وشاعره يقول في مجلسه:

____________________

(1) تاريخ الطبري 8 / 349 - 350.

(2) الكامل في التاريخ: 6 / 293 - 294.

(3) الكامل في التاريخ: 6 / 295.


ألا فاسقني خمراً

وقل لي هي الخمر

ولا تسقني سرّاً

إذا أمكن الجهر(1)

وقال ابن الأثير واصفاً له: ولم نجد في سيرته ما يستحسن ذكره من حلم، أو معدلة، أو تجربة، حتى نذكرها(2) .

وتابع المأمون أباه وأخاه في اللهو واللعب وحب الغناء والطرب، قال إسحاق بن إبراهيم بن ميمون: وكان المأمون من أشغف خلق الله بالنساء، وأشدّهم ميلاً اليهنَّ واستهتاراً بهنَّ(3) .

وكان يشرب الشراب مع ندمائه فيأخذ الشراب منهم مأخذاً(4) .

وأخرج من طرق عدة أن المأمون كان يشرب النبيذ(5) .

وكان يسهر الليالي مع الجواري والمغنيين في شراب وغناء حتى الصباح، ففي ليلة من الليالي كان محمد بن حامد واقفاً على رأس المأمون وهو يشرب، فاندفعت عريب فغنّت... فأنكر المأمون أن لا تكون ابتدأت بشيء... فقال محمد بن حامد: أنا يا سيدي أومأت إليها بقبلة... فقال المأمون:... لقد زوجت محمد بن حامد عريب مولاتي، ومهرتها عنه أربعمائة درهم... فلم تزل تغنّيه إلى السحر وابن حامد على الباب(6) .

ومن مصاديق الانحراف الأخلاقي أن أحد قضاة الأمين ثم المأمون كان يمارس اللواط حتى اشتهر به، فاشتكى المسلمون إلى المأمون منه فأجابهم:

____________________

(1) الكامل في التاريخ: 6 / 295.

(2) الكامل في التاريخ: 6 / 295.

(3) العقد الفريد: 8 / 156.

(4) الكامل في التاريخ: 6 / 437.

(5) تاريخ الخلفاء: 260.

(6) تاريخ الخلفاء: 260.


لو طعنوا عليه في أحكامه قبل ذلك منهم، وبعد ازدياد الشكاوي عليه عزله، ثم أصبح فيما بعد من ندمائه ورخّص له في أمور كثيرة(1) .

وكان الانحراف واضحاً لدى المقربين من الحكام، ففي بداية عهد المأمون كان بعض الجنود والشرطة في بغداد والكرخ يجهرون بالفسق وقطع الطريق وأخذ الغلمان والنساء علانية من الطرق... وكانوا يجتمعون فيأتون القرى... ويأخذون ما قدروا عليه من متاع ومال وغير ذلك، لا سلطان يمنعهم، ولا يقدر على ذلك منهم، لان السلطان كان يعتزّ بهم، وكانوا بطانته(2) .