لقد راجت التيارات الفكرية المنحرفة في عهد العباسيين، ووجدت لها أتباعاً وأنصاراً، وكثر الجدل والمراء وانشغلت الأمة بذلك، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدل على منهج الحكّام العباسيين في الترويج لها وتشجيع القائمين عليها؛ لإشغال الأمة عن الأحداث والمواقف التي يتخذونها في السياسة والاقتصاد والحياة العامة، و إبعادهم عن ما يثيرهم اتخاذ الموقف المعارض للسياسات القائمة.

فعلى مستوى أصحاب الديانات نجد اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والبراهمة وهكذا الملحدين والدهرية وباقي أصناف الزنادقة كان لهم مطلق الحرية في التعبير عن أفكارهم وعقائدهم.

وتعددت المذاهب الإسلامية بتعدد أربابها، وانتشرت الأفكار العقلية


الصرفة والفلسفية المثالية، وكثر الجدل في الجبر والتفويض والإرجاء والتجسيم والتشبيه، وتحوّلت المذاهب السياسية إلى مذاهب عقائدية. فالزيدية والإسماعيلية كانتا من الحركات والمذاهب السياسية التي تتبنى الجهاد المسلّح فتحوّلت إلى مذاهب عقائدية وفكرية، وانتشرت الادّعاءات الباطلة والمُزيّفة،كادّعاء النبوة، وكادّعاء أحد الأفراد انه إبراهيم الخليل. ولولا تشجيع الحكّام ومنح الحرية للتيارات والمذاهب المنحرفة لما انتشرت ولما استشرت هذه المذاهب في أوساط المسلمين.

وكان الحكّام يفتعلون الآراء والنظريات أو يتبنونها لإشغال المسلمين بالجدال والنقاش وكثرة القيل والقال، وكانوا يعاقبون المخالفين لآرائهم المتبنّاة بالسجن والقتل على الرغم من عدم وجود تأثير واقعي لتلك الآراء، فقد شجّع هارون على القول بانّ القرآن قديم، وقام بقتل من يخالف رأيه. فحينما سُئِل عن رجل مقتول بين يديه أجاب: قتلته لأنه قال القرآن مخلوق(1) .

وتغيَّرَ الرأي في عهد ابنه المأمون وناقض قرار والده والتزم بالقول بخلق القرآن وأنه ليس قديماً، وكان يمتحن العلماء في ذلك(2) .

وكان هارون يشجّع على الروايات والأحاديث الكاذبة المنسوبة إلى رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم وخصوصاً روايات وأحاديث الخرافة ويعاقب كل من يعارض الترويج لهذه الروايات، ومن الأمثلة على ذلك: أنه دخل أبو معاوية الضرير على هارون وعنده رجل من وجوه قريش، فجرى الحديث إلى أن ذكر أبو معاوية حديث أبي هريرة المنسوب إلى رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم :(إن موسى

____________________

(1) البداية والنهاية: 10 / 215.

(2) تاريخ الخميس: 2 / 334.


لقيَ آدم فقال :أنت آدم الذي أخرجتنا من الجنة) ، فقال القرشي: أين لقيَ آدم موسى؟! فغضب هارون، وقال: النطع والسيف، زنديق والله! يطعن في حديث رسول الله)، فما زال أبو معاوية يسكنه ويقول: كانت منه بادرة، ولم يفهم يا أمير المؤمنين حتى سكّنه(1) .

وكان هارون يشجّع ويكرّم العلماء الذين ينسجمون مع آرائه وأهوائه، في الوقت الذي كان يسجن العلماء العظام، والأئمة من أهل البيت عليهم السلام ويحاصرهم. ومن تشجيعه في هذا المجال أنه صبّ الماء على يد أبي معاوية، وقال له: أتدري من يصبّ على يديك؟ قال: لا، قال: أنا، قال أبو معاوية: أنت يا أمير المؤمنين، قال: نعم إجلالاً للعلم(2) .

وكان هارون يشجّع الأفكار والآراء والأقوال التي تلبس حكمه لباساً مقدساً، فقد أنشده أحد الشعراء أربعة أبيات لقّب فيها هارون بأمين الله، فأمر له لكل بيت بألف دينار، وقال: لو زدتنا لزدناك(3) ، فانساق الشعراء وراء الأموال وأخذوا يروّجون لقدسية الحكّام حتى قال أحدهم مادحاً هارون:

حب الخليفة حبّ لا يدين له

عاصي الإله وشار يلقح الفتنا(4)

وقال سَلْم الخاسر يمدح الأمين وهارون:

قد بايع الثقلان مهديَّ الهدى

لمحمد بن زُبيدة ابنة جعفر

قد وفق الله الخليفة إذ بنى

بيت الخلافة للهجان الأزهر

فأعطته زبيدة جوهراً باعه بعشرين ألف دينار(5) .

____________________

(1) تاريخ بغداد: 14/8.

(2) تاريخ بغداد: 14 / 8.

(3) مروج الذهب: 3 / 365.

(4) تاريخ الخلفاء: 233.

(5) تاريخ الخلفاء: 233.


ومن أجل إبعاد المسلمين عن نهج أهل البيت عليهم السلام قام العباسيون بمحاصرة الفقهاء المؤيّدين لهم، وشجّعوا على نشوء التيارات الهدّامة، وهذا واضح من خلال عدم ملاحقتهم لأتباعها وأنصارها. فقد نشأ تيار الواقفة وتيار الغلاة، ولم يبادر العباسيون إلى تطويقهما في بداية نشوئهما، سعياً منهم لتشويه منهج أهل البيت عليهم السلام وتفتيت كيانهم.

وقام المأمون بترجمة كتب الفلسفة من اليونانية إلى العربية(1) وبطبيعة الحال تؤدّي الترجمة إلى انتشار الأفكار والمصطلحات المنطقية والفروض الذهنية البعيدة عن الواقع.

وفي عهدهم كثر الإفتاء بالرأي، وتفسير القرآن بالرأي، وراج القياس الباطل القائم على أساس قياس حكم فرعي بحكم فرعي آخر، وأصبحت الفتاوى تابعة لأهواء الحكّام وشهواتهم، فعن ابن المبارك انّه قال: لما أفضت الخلافة إلى الرشيد وقعت في نفسه جارية من جواري المهدي، فراودها عن نفسها، فقالت: لا أصلح لك، إنّ أباك قد طاف بي، فشغف بها، فأرسل إلى أبي يوسف، فسأله: أعندك في هذا شيء؟ فقال: يا أمير المؤمنين أو كلّما ادّعت أَمة شيئاً ينبغي أن تصدَّق؟ لا تصدّقها فإنّها ليست بمأمونة، قال ابن المبارك: فلم أدر ممن أعجب: من هذا الذي قد وضع يده في دماء المسلمين وأموالهم يتحرج عن حرمة أبيه؟! أو من هذه الأَمة التي رغبت بنفسها عن أمير المؤمنين؟! أو من هذا فقيه الأرض وقاضيها؟! قال: أهتك حرمة أبيك، واقض شهوتك، وصيره في رقبتي(2) .

وعن عبد الله بن يوسف قال: قال الرشيد لأبي يوسف: إني اشتريت جارية وأريد أن أطأها قبل الاستبراء، فهل عندك حيلة؟ قال: نعم، تهبها

____________________

(1) مآثر الإنافة في معالم الخلافة: 1 / 209.

(2) تاريخ الخلفاء: 233.


لبعض ولدك، ثم تتزوّجها(1) .

وهكذا أصبح الفقهاء تبعاً للحكّام يفتون بما ينسجم مع أهوائهم ورغباتهم باستثناء الفقهاء من أتباع أهل البيت عليهم السلام ممن كانت لديهم شجاعة لمقارعة الظالمين فإنهم كانوا مطاردين وملاحقين من قبل الحكّام وأعوانهم.

ونشر فقهاء البلاط مفاهيم خاطئة عن الزهد ومفاهيم التصوّف المنحرف لإبعاد المسلمين عن التدخل في السياسة أو الاعتراض على مواقف الحكّام، فانتشر التصوّف وانزوى الكثير واعتزلوا الحياة، ولم يقوموا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.