انتبهت قريش وخرجت من غفلتها فقد انفتح باب الرجاء في الغلبة، في وجه المسلمين فراحت تزيد من استخدام القسوة والتنكيل والاضطهاد للمسلمين في محاولة منها للقضاء عليهم قبل استفحال الأمر، فشكا المسلمون ذلك لرسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم واستأذنوه للخروج من مكة فاستمهلهم أياماً ثم قال:(لقد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب فمن أراد الخروج فليخرج إليها) (١) ، وفي رواية أخرى:(إن الله قد جعل لكم داراً تأمنون بها وإخواناً) (٢) .

وشرع بعض المسلمين يخرجون من مكة إلى يثرب سرّاً كي لا يثيروا هواجس قريش، وبدأت طرقات مكة وبيوتها ونواديها تشهد يوماً بعد يوماً غياباً مستمراً لأصحاب رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم . أمّا هو فكان ينتظر الأمر الإلهي بالهجرة وليضمن سلامة ودقة هجرة المسلمين. وأدركت قريش هدف النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم وخطته فسعت إلى منع المسلمين من الخروج من مكة ولحقت بالمهاجرين مستخدمة أساليب الإغراء والتعذيب لإعادتهم إلى مكة.

وكانت قريش حريصة في أن يبقى الأمن سائداً في مكة مما جعلها تخشى عواقب قتل المهاجرين خشية وقوع الحرب بينها وبينهم فاكتفت بالتعذيب والحبس للمسلمين.

نعم كانت قريش تحسب ألف حساب لخروج رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم إلى يثرب فقد أصبح للمسلمين اليد العليا هناك فإذا لحق بهم النبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم وهو المعروف بالثبات وحسن الرأي والتدبير والقوة والشجاعة حينئذ سوف تحل الكارثة بالمشركين عامة وبقريش بشكل خاص.

ــــــــــــ

(١) الطبقات الكبرى: ١ / ٢٢٦.

(٢) مناقب آل أبي طالب: ١ / ١٨٢، السيرة النبوية : ١ / ٤٦٨.


وسارع رؤساء قريش لعقد اجتماع لهم في دار الندوة للبحث عن حلّ يواجهون به الخطر المحدق بهم فتعددت الأراء وتضاربت وكان من بين الحلول المقترحة حبسه وتكبيله بالأغلال أو نفيه بعيداً عن مكة في منقطع الصحراء، ولكن رأياً بقتله وتفريق دمه بين القبائل ـ لتعجز بنو هاشم عن المطالبة بدمه ـ هو الذي حاز الموافقة والإعجاب(١) ، فإنهم إن قتلوا الرسول صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم فقد قضوا على الرسالة الإسلامية وهي في مهدها.

وجاء الأمر الإلهي يأمر رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم بالتحرك والهجرة إلى يثرب وكانت تلك الإشارة التي ينتظرها الرسول صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم بشوق بالغ ليحطّ قدمه على أرض يتمكن فيها من بناء دولة على أعمدة التقوى وتعاليم السماء وإنشاء المجتمع الإنساني الصالح.

وبعد أن دبّر المشركون خطّتهم وأحكموها نزل أمين الوحي (جبرئيل) على رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم وأخبره بما حاك المشركون ضدّه من مؤامرة إذ قرأ عليه قوله تعالى: ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) (٢) .

ورغم يقينه الكامل بأن الإمداد الغيبي يرعاه ويسدد خطاه

لم يتعجل الحركة، ولم يرتجل الخطوات بل خطط ودبّر ببصيرة وحنكة وسرية تامة.

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ١ / ٤٨٠، الطبقات الكبرى: ١ / ٢٢٧، تفسير العياشي: ٢ / ٥٤.

(٢) المناقب: ١ / ١٨٢ ـ ١٨٣، الأنفال: ٨ / ٣.