إن دور الإمام الحقيقي هو دور القدوة، ومن أهم المسؤوليات الملقاة على عاتقه إصلاح الحاكم والأمة معاً، والقضاء على الانحراف في مهده. أو الحيلولة دون التمادي فيه، وهذا الدور تختلف أساليبه وبرامجه تبعاً للعوامل والظروف السياسية المحيطة بالإمام، وتتغيّر المواقف تبعاً للمقومات التالية:

أ ـ المصلحة الإسلامية العامة.

ب ـ المصلحة الإسلامية الخاصة، والتي تتعلق بالحفاظ على منهج أهل البيت عليهم السلام ورفده بالعناصر النزيهة، لضمان استمرار حركته في الأمة.

ت ـ الظروف العامة والخاصة من حيث قوة الحاكم، وقوة القاعدة الشعبية لأهل البيت عليهم السلام .

وكانت التقيّة أسلوباً يتخذه الإمام عليه السلام في مواقفه من الحاكم الجائر عندما لا تكون المواجهة العلنية مفيدة ومثمرة، وأوضح الإمام حدودها بقوله:(التقية في كل ضرورة) (١) . وقال عليه السلام :(إنما جعلت التقيّة ليحقن بها الدماء، فإذا بلغ الدم فلا تقيّة) (٢) .

وفي العهود التي سبقت عهد عمر بن عبد العزيز، كان الإمام عليه السلام يتّقي المواجهة مع الحاكم حفاظاً على كيان أهل البيت عليهم السلام وإبعاداً لأنصاره عن حراب الحاكم وأعوانه، ولم يتدخل عليه السلام في شؤون الحاكم إلا في حدود ضيّقة، وحينما وصل الأمر إلى عمر بن عبد العزيز وتبدلت الأوضاع والظروف تقرب عمر بن عبد العزيز إلى أهل البيت عليهم السلام وفضّلهم على بني أمية، قائلاً: أفضلهم لأنّي سمعت... أن رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم كان يقول:(إنّما فاطمة شجنة (٣) منّي

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٧٢ / ٣٩٩.

(٢) المصدر السابق.

(٣) الشجن: القرع من كل شيء.


يسرّني ما أسرّها، ويسوؤني ما أساءها) ، فأنا ابتغي سرور رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم وأتقي مساءته(١) .

واستثمر الإمام عليه السلام هذه الحرية النسبيّة، فقام بدوره في إصلاح الحاكم وأجهزته وإرشاده وحثّه على الاستقامة في التعامل مع الرعيّة.

وحينما بعث إليه أن يقدم عليه، لبّى عليه السلام الدعوة واجتمع معه، وأخذ ينصحه ويطلب منه أن يوفق بين ممارساته وبين القيم الإسلامية في مجال التعامل، وممّا جاء في نصائحه له قوله عليه السلام :(... فاتق الله، واجعل في قلبك اثنتين تنظر الّذي تحبّ أن يكون معك إذا قدمت على ربِّك، فقدِّمه بين يديك، وتنظر الذي تكرهه أن يكون معك إذا قدمت على ربِّك، فابتغ به البدل، ولا تذهبن إلى سلعة قد بارت على من كان قبلك ترجو أن تجوز عنك، واتق الله يا عمر وافتح الأبواب وسهّل الحجاب، وانصر المظلوم وردّ المظالم) (٢) .

واستشاره عمر في بعض الأمور، وحينما أراد الرجوع إلى المدينة قال له عمر: فأوصني يا أبا جعفر، فقال عليه السلام :(أوصيك بتقوى الله واتّخذ الكبير أباً، والصغير ولداً، والرجل أخاً) (٣) .

وفي عهد هشام بن عبد الملك كان عليه السلام يتحرك تبعاً لمواقف هشام من حيث اللين والشدة، فحينما دخل هشام المسجد الحرام نظر إلى الإمام عليه السلام وقد أحدق الناس به، فقال: من هذا ؟ فقيل له: محمد بن علي بن الحسين، فقال: هذا المفتون به أهل العراق؟! فأرسل إليه، وسأله بعض الأسئلة، فأفحمه الإمام عليه السلام وظهر عليه أمام أتباعه(٤) .

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٦ / ٣٢٠.

(٢) المصدر السابق: ٧٥ / ١٨٢.

(٣) مختصر تاريخ دمشق: ٢٣ / ٧٧.

(٤) المصدر السابق: ٢٣ / ٧٩.


ولمّا حُمل إلى الشام وأراد هشام أن ينتقص منه، نهض قائماً ثم قال:(أيها الناس أين تذهبون وأين يراد بكم؟ بنا هدى الله أوّلكم، وبنا يختم آخركم، فإن يكن لكم ملك معجّل، فإنّ لنا ملكاً مؤجلاً...) (١) .