ورغم احتياطات النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم في المرحلة السابقة وتجنّبه الدخول في مواجهة مباشرة له أو لأحد من المسلمين مع قوى الشرك والوثنية فإنه كان يتعرّض خلالها للنقد واللوم اللاذع له ولبقيّة المسلمين.

وكان لدعوة بني هاشم إلى الدين الجديد الأثر البالغ والذكر الشائع في أوساط القبائل العربية فقد تبين لهم صدق وجدّية النبوة التي أعلنها محمّد صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم وآمن بها من آمن.

وبانقضاء السنوات الثلاث ـ أو الخمس ـ من بداية الدعوة نزل الأمر الإلهي بالصدع بالرسالة الإلهية والإنذار العام ليخرج الأمر عن الاتصال الفردي الذي كان يتمّ بعيداً عن الأنظار، فيدعو الجميع إلى رسالة الإسلام والايمان بالله الواحد الأحد، وقد وعد الله نبيّه صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم بتسديد خُطاه في مواجهة المستهزئين والمعاندين في قوله تعالى:( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) (٢) .

فتحرك النبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم صادعاً بأمر الله بثقة مطلقة وعزيمة راسخة متحدياً

ــــــــــــ

(١) روي هذا الحديث في مصادر عديدة وبألفاظ متقاربة في: تاريخ الطبري: ٢ / ٤٠٤، السيرة الحلبية: ١ / ٤٦٠، شرح نهج البلاغة: ١٣ / ٢١٠ وراجع أيضاً : حياة محمد: ١٠٤، لمحمد حسين هيكل، الطبعة الأولى.

(٢) الحجر (١٥): ٩٤ ـ ٩٥.


كل قوى الشر والشرك، وقام على الصفا ونادى قريشاً من كل ناحية فأقبلوا نحوه فقال صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم :(أرأيتكم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم ما كنتم تصدقونني؟) قالوا: بلى، قال:(فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد) . فنهض أبو لهب ليرد على رسول الله فقال: تباً لك! سائر هذا اليوم ألهذا جمعتنا؟! ـ فأنزل الله تعالى:( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ) (١) .

لقد كان هذا إنذاراً صارخاً أفزع قريشاً إذ أصبح تهديداً علنياً لكل معتقداتهم وتحذيراً من عاقبة مخالفتهم لأمر الرسول صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم واتضح أمر الدين الجديد لأهل مكة بل كل أطراف الجزيرة إذ أدركوا أنّ انقلاباً حقيقياً سيحلّ بمسيرة البشرية ويرفع من شأنها في القيم والثقافة والمعايير والمواقع الاجتماعية وفق تعاليم السماء وينسف الشر من جذوره فكانت المواجهة مع قادة الشرك والطغيان مواجهة حقيقية لا يمكن أن تنتهي إلى نقاط وفاق.

وخلال هذه الفترة دخل في الإسلام عدد من العرب وغير العرب حتى بلغوا أربعين رجلاً، ولم تتمكن قريش من تحطيم هذه النهضة الفتية إذن المؤمنين ينتمون إلى قبائل شتى، من هنا توسّلت قريش بالمواجهة السلميّة ابتداءً.

ولكن أبا طالب ردّهم ردّاً جميلاً، فانصرفوا عنه صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم (٢) .

ــــــــــــ

(١) المناقب: ١ / ٤٦، تاريخ الطبري: ٢ / ٤٠٣.

(٢) سيرة ابن هشام: ١ / ٢٦٤ ـ ٢٦٥، تأريخ الطبري: ٢ / ٤٠٦.