لقد ازدهرت الحياة الفكرية والعلمية في الإسلام بهذا الإمام العظيم الذي التقت فيه عناصر الشخصيّة من السبطين الحسن والحسين عليهما‌ السلام ، وامتزجت به تلك الأصول الكريمة والأصلاب الشامخة، والأرحام المطهَّرة، التي تفرّع منها.

فالأب: هو سيد الساجدين وزين العابدين وألمع سادات المسلمين.

والأم: هي السيدة الزكية الطاهرة فاطمة بنت الإمام الحسن سيد شباب أهل الجنة، وتكنى أم عبد الله(١) وكانت من سيدات نساء بني هاشم، وكان الإمام زين العابدين عليه السلام يسميها الصديقة(٢) ويقول فيها الإمام أبو عبد الله الصادق عليه السلام : (كانت صديقة لم تدرك في آل الحسن مثلها)(٣) وحسبها سموّاً أنها بضعة من ريحانة رسول الله، وأنها نشأت في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، ففي حجرها الطاهر تربى الإمام الباقر عليه السلام .

المولود المبارك:

وأشرقت الدنيا بمولد الإمام الزكي محمد الباقر الذي بشّر به النبي صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم قبل ولادته، وكان أهل البيت عليهم السلام ينتظرونه بفارغ الصبر لأنه من أئمة المسلمين الذين نص عليهم النبي صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم وجعلهم قادة

ــــــــــــــ

(١) تهذيب اللغات والأسماء: ١ / ٨٧، وفيات الأعيان: ٣ / ٣٨٤.

(٢) عن الدر النظيم من مصورات مكتبة الإمام أمير المؤمنين تسلسل (٢٨٧٩).

(٣) أصول الكافي: ١ / ٤٦٩.


لاُمته، وقرنهم بمحكم التنزيل وكانت ولادته في يثرب في اليوم الثالث من شهر صفر سنة ( ٥٦ هـ )(١) وقيل سنة ( ٥٧ هـ ) في غرة رجب يوم الجمعة(٢) وقد ولد قبل استشهاد جده الإمام الحسين عليه السلام بثلاث سنين(٣) وقيل بأربع سنين كما أدلى عليه السلام بذلك(٤) وقيل بسنتين وأشهر(٥) .

وقد أجريت له فور ولادته مراسيم الولادة كالأذان والإقامة في أذنيه وحلق رأسه والتصدق بزنة شعره فضة على المساكين، والعَقِّ عنه بكبش والتصدّق به على الفقراء.

وكانت ولادته في عهد معاوية والبلاد الإسلامية تعج بالظلم، وتموج بالكوارث والخطوب من ظلم معاوية وجور ولاته الذين نشروا الإرهاب وأشاعوا الظلم في البلاد.

تسميته: وسماه جده رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم بمحمد، ولقّبه بالباقر قبل أن يولد بعشرات السنين، وكان ذلك من أعلام نبوته، وقد استشف صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم من وراء الغيب ما يقوم به سبطه من نشر العلم وإذاعته بين الناس فبشّر به أمته، كما حمل له تحياته على يد الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري.

كنيته: (أبو جعفر)(٦) ولا كنية له غيرها.

ألقابه الشريفة: وقد دلّت على ملامح من شخصيته العظيمة وهي:

١ ـ الأمين.

ــــــــــــــ

(١) وفيات الأعيان: ٣ / ٣١٤، تذكرة الحفاظ: ١ / ١٢٤.

(٢) دلائل الإمامة: ٩٤.

(٣) أخبار الدول: ١١١، وفيات الأعيان: ٣ / ٣١٤.

(٤) تأريخ اليعقوبي: ٢ / ٣٢٠.

(٥) عن عيون المعجزات للحسين بن عبد الوهاب من مخطوطات مكتبة الإمام الحكيم تسلسل (٩٧٥).

(٦) دلائل الإمامة: ٩٤.


٢ ـ الشبيه: لأنه كان يشبه جده رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم (١) .

٣ ـ الشاكر.

٤ ـ الهادي.

٥ ـ الصابر.

٦ ـ الشاهد(٢) .

٧ ـ الباقر(٣) .

وهذا من أكثر ألقابه ذيوعاً وانتشاراً، وقد لقب هو وولده الإمام الصادق بـ ( الباقرين ) كما لقبا بـ ( الصادقين ) من باب التغليب(٤) .

ويكاد يجمع المؤرخون والمترجمون للإمام على أنه إنّما لقب بالباقر لأنه بقر العلم أي شقه، وتوسع فيه فعرف أصله وعلم خفيه(٥) .

وقيل: إنما لقّب به لكثرة سجوده فقد بقر جبهته أي فتحها ووسعها(٦) .

تحيات النبيّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم إلى الباقر عليه السلام : ويجمع المؤرخون على أن النبيّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم حمّل الصحابي العظيم جابر بن عبد الله الأنصاري تحياته، إلى سبطه الإمام الباقر، وكان جابر ينتظر ولادته بفارغ الصبر ليؤدي إليه رسالة جده، فلما ولد الإمام وصار صبياً يافعاً التقى به جابر فأدى إليه تحيات النبيّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم وقد روى المؤرخون ذلك بصور متعددة وهذا بعضها:

١ ـ روى ابن عساكر أن الإمام زين العابدين عليه السلام ومعه ولده الباقر دخلا على جابر بن عبد الله الأنصاري، فقال له جابر: من معك يا ابن رسول الله؟ قال:

ــــــــــــــ

(١) أعيان الشيعة: ق١ / ٤ / ٤٦٤.

(٢) راجع جنات الخلود، وناسخ التواريخ. حياة الإمام الباقر عليه‌السلام .

(٣) تذكرة الحفاظ: ١ / ١٢٤، نزهة الجليس: ٢ / ٣٦.

(٤) عن جامع المقال للشيخ الطريحي.

(٥) عيون الأخبار وفنون الآثار: ٢١٣، عمدة الطالب: ١٨٣.

(٦) عن مرآة الزمان في تواريخ الأعيان: ٥ / ٧٨ من مصورات مكتبة الإمام الحكيم.


معي ابني محمد ، فأخذه جابر وضمّه إليه وبكى، ثم قال: اقترب اجلي يا محمد! ، رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم يقرؤك السلام. فسئل: وما ذاك؟ فقال: سمعت رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم يقول:للحسين بن علي يولد لابني هذا ابن يقال له علي بن الحسين، وهو سيد العابدين إذا كان يوم القيامة ينادي مناد ليقم سيد العابدين فيقوم علي بن الحسين، ويولد لعلي بن الحسين ابن يقال له: محمد إذا رأيته يا جابر فاقرأه مني السلام، يا جابر اعلم أن المهدي من ولده، واعلم يا جابر أنّ بقاءك بعده قليل) (١) .

٢ ـ روى تاج الدين بن محمد نقيب حلب بسنده عن الإمام الباقر عليه السلام قال:(دخلت على جابر بن عبد الله فسلّمت عليه. فقال لي من أنت؟ وذلك بعد ما كف بصره، فقلت له: محمد بن علي بن الحسين، فقال: بأبي أنت وأمي، ادن مني فدنوت منه، فقبّل يدي ثم أهوى إلى رجلي فاجتذبتها منه، ثم قال: إن رسول الله يقرؤك السلام، فقلت وعلى رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم السلام ورحمة الله وبركاته، وكيف ذلك يا جابر؟ قال: كنت معه ذات يوم فقال لي: يا جابر لعلك تبقى حتى تلقى رجلاً من ولدي يقال له محمد بن علي بن الحسين يهب له الله النور والحكمة فاقرأه مني السلام...) (٢) .

ــــــــــــــ

(١) عن تاريخ ابن عساكر: ٥١ / ٤١ من مصورات مكتبة الإمام أمير المؤمنين.

(٢) غاية الاختصار: ٦٤.


٣ ـ ذكر صلاح الدين الصفدي قال: (كان جابر يمشي بالمدينة ويقول: يا باقر متى ألقاك؟ فمرّ يوماً في بعض سكك المدينة فناولته جارية صبياً في حجرها فقال لها: من هذا؟ فقالت: محمّد بن علي بن الحسين، فضمّه إلى صدره، وقبّل رأسه ويديه، وقال: يا بني، جدّك رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم يُقرِئُك السلام ثم قال: يا باقر نعيت إليَّ نفسي فمات في تلك الليلة)(١) .

ملامحه: كانت ملامح الإمام محمّد الباقر عليه السلام كملامح رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم وشمائله(٢) وكما شابه جده النبيّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم في معالي أخلاقه التي امتاز بها على سائر النبيين فقد شابهه في هذه الناحية أيضاً.

ووصفه بعض المعاصرين له فقال: إنه كان معتدل القامة اسمر اللون(٣) رقيق البشرة له خال، ضامر الكشح، حسن الصوت مطرق الرأس(٤) .

ذكاؤه المبكر: وكان عليه السلام في طفولته آية من آيات الذكاء حتى أن جابر ابن عبد الله الأنصاري على شيخوخته كان يأتيه فيجلس بين يديه فيعلمه... وقد بهر جابر من سعة علوم الإمام ومعارفه وطفق يقول: (يا باقر لقد أوتيت الحكم صبياً)(٥) .

وقد عرف الصحابة ما يتمتع به الإمام منذ نعومة أظفاره من سعة الفضل والعلم الغزير فكانوا يرجعون إليه في المسائل التي لا يهتدون إليها ويقول المؤرخون إن رجلاً سأل عبد الله بن عمر عن مسألة فلم يقف على جوابها فقال للرجل: اذهب إلى ذلك الغلام ـ وأشار إلى الإمام الباقر ـ فاسأله، وأعلمني بما يجيبك فبادر نحوه وسأله فأجابه عليه السلام عن مسألته وخف إلى ابن عمر فاخبره بجواب الإمام، وراح ابن عمر يبدي إعجابه بالإمام قائلاً:

ــــــــــــــ

(١) الوافي بالوفيات: ٤ / ١٠٣.

(٢) أصول الكافي: ١ / ٤٦٩.

(٣) أخبار الدول: ١١١، جوهرة الكلام في مدح السادة الإعلام: ١٣٢.

(٤) أعيان الشيعة: ق١ / ٤ / ٤٧١.

الكشح: ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف، والضامر هو الهزيل والخفيف اللحم. راجع مختار الصحاح.

(٥) علل الشرائع: ٢٣٤.


إنهم أهل بيت مفهّمون)(١) .

لقد خص الله أئمة أهل البيت عليهم السلام بالعلم والفضل، وزوّدهم بما زوّد أنبياءه ورسله من الفهم والحكمة حتّى أنه لم يخف عليهم جواب مسألة تعرض على أحد منهم، ويقول المؤرخون ان الإمام كان عمره تسع سنين وقد سئل عن أدق المسائل فأجاب عنها.

هيبته ووقاره: وبدت على ملامح الإمام عليه السلام هيبة الأنبياء ووقارهم، فما جلس معه أحد إلا هابه وأكبره وقد تشرف قتادة وهو فقيه أهل البصرة بمقابلته فاضطرب قلبه من هيبته وأخذ يقول له:

(لقد جلست بين يدي الفقهاء وأمام ابن عباس فما اضطرب قلبي من أي أحد منهم مثل ما اضطرب قلبي منك)(٢) .

نقش خاتمه: (العزة لله جميعاً)(٣) وكان يتختم بخاتم جده الإمام الحسين عليه السلام وكان نقشه (إن الله بالغ أمره)(٤) وذلك مما يدل على انقطاعه التام إلى الله وشدة تعلقه به.

ــــــــــــــ

(١) المناقب: ٤ / ١٤٧.

(٢) إثبات الهداة: ٥ / ١٧٦.

(٣) حلية الأولياء: ٣ / ١٨٩.

(٤) في رحاب أئمة أهل البيتعليهم‌السلام : ٤ / ٤.