من المعلوم أنّ الفكر السليم هو أحد مقوّمات كلّ حركة سياسية صحيحة، فتثقيف الجماهير وتوعيتها لتكون على علم بما يجري عليها وحواليها وما يجب لها وعليها من حقوق وواجبات هو الركيزة الأولى لِصدّ الأنظمة الحاكمة الفاسدة التي تسعى على طول التأريخ في إبعاد الناس عن الحقّ والتعاليم الأصيلة.


وقد قام الإمام زين العابدين عليه السلام بأداء دور مهمّ في هذا الميدان، حيث تصدّى للوقوف بوجه المنع السلطوي لرواية الحديث(١) فأمر برواية الحديث وحثّ على ذلك، وكان يطبّق السنّة ويدعو إلى تطبيقها والعمل بها، وقد روي عنه قوله عليه السلام : إنّ أفضل الأعمال ما عمل بالسنّة وإن قلّ(٢) .

وفي الظروف التي عاشها الإمام عليه السلام ـ حيث كان الحكّام بصدد اجتثاث الحقّ من جذوره وأصوله والذي تمثّل في حفظة القرآن ومفسّريه ـ كانت الدعوة إلى الاعتصام بالقرآن من أهم الواجبات آنذاك، ولقد قام الإمام زين العابدين عليه السلام بجهد وافر في هذا المجال.

قال عليه السلام :(عليك بالقرآن، فإنّ الله خلق الجنّة بيده لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وجعل ملاطها المسك وترابها الزعفران وحصاها اللؤلؤ، وجعل درجاتها على قدر آيات القرآن، فمن قرأ منها قال له: إقرأ وارق، ومن دخل الجنّة لم يكن في الجنّة أعلى درجة منه، ما خلا النبيّين والصدّيقين) (٣) . وكان يقول:(لو مات من بين المشرق والمغرب ما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي) (٤) .

كما كان يسعى في تمجيد القرآن عملياً وبأشكال مختلفة، وكان أحسن الناس صوتاً بالقرآن(٥) ، كما كان يرشد الأمة من خلال تفسيره للقرآن

ــــــــــــــ

(١) كانت عملية منع الحديث ـ تدويناً ورواية ـ قد بدأت بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة.

(٢) المحاسن: ٢٢١ ح١٣٣.

(٣) تفسير البرهان : ٣ / ١٥٦.

(٤) بحار الأنوار : ٤٦ / ١٠٧.

(٥) المصدر السابق : ٧٠ ، ب٥ ، ح٤٥.


الكريم(١) .

وبذل الإمام عليه السلام جهوداً جبّارةً لتثبيت قواعد التوحيد الإلهي وتشييد أركانه عبر الاستدلال على ذلك بما يوافق الفطرة والعقل السليمين، والردّ على الأفكار المنحرفة التي غذّاها الحكّام ـ مثل فكرة الجبر الإلهي ـ بهدف التمكّن من السلطة والسيطرة التامة على مصير الناس والهيمنة على الأفكار بعد السيطرة على الأفواه والأجسام، وقد ذكرنا أنّ الإمام عليه السلام قال لابن زياد الذي أراد أن ينسب قتل عليّ بن الحسين إلى الله:( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) ، فالإمام تحدّى الحاكم في مجلسه حين ردّ على الانحراف العقائدي بتلك الصراحة، وبيّن الفرق بين التوفّي للأنفس واسترجاعها ـ الذي نسبه القرآن إلى الله تعالى حين حلول الأجل والموت حتف الأنف ـ وبين القتل الذي هو إزهاق الروح من قبل القاتل قبل حلول الموت المذكور.

وفي جوابه عليه السلام عن سؤال: أبقدر يصيب الناس ما أصابهم أم بعمل؟ قال عليه السلام :(إنّ القدر والعمل بمنزلة الروح والجسد... ولله فيه العون لعباده الصالحين) ، ثمّ قال عليه السلام :(ألا من أجور الناس من رأى جوره عدلاً، وعدل المهتدي جوراً) (٢) .

وهكذا تصدّى الإمام عليه السلام لعقيدة التشبيه والتجسيم(٣) ، وفكرة الإرجاء(٤) .

وعلى صعيد الإمامة والولاية أعلن الإمام عليه السلام عن إمامته بنفسه بكلّ وضوح وصراحة ومن دون أيّة تقيّة أو سريّة، وقد تعدّدت الأحاديث

ــــــــــــــ

(١) الاحتجاج: ٣١٢ ـ ٣١٩ .

(٢) التوحيد للصدوق: ٣٦٦.

(٣) كشف الغمة : ٢ / ٨٩ .

(٤) جهاد الإمام السجاد عليه‌السلام : ١٠٧.


المصرّحة بهذا الإعلان، منها قوله عليه السلام :(نحن أئمّة المسلمين، وحجج الله على العالمين، وسادة المؤمنين وقادة الغرّ المحجّلين وموالي المؤمنين، ونحن أمان أهل الأرض، كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء... ولولا ما في الأرض منّا لساخت بأهلها، ولم تخلُ الأرض منذ خلق الله آدم من حجّة لله فيها، ظاهر مشهور أو غائب مستور، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجّة لله فيها، ولو لا ذلك لم يعبد الله) (١) .

وقال أبو المنهال نصر بن أوس الطائي: قال لي عليّ بن الحسين عليه السلام :(إلى مَن يذهب الناس؟) قال: قلت: يذهبون ها هنا وها هنا، قال:(قل لهم يجيئون إليّ) (٢) .

وقال له أبو خالد الكابلي: يا مولاي، أخبرني كم يكون الأئمّة بعدك؟ قال:(ثمانية لأنّ الأئمّة بعد رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم اثنا عشر إماماً، عدد الأسباط، ثلاثة من الماضين، وأنا الرابع، وثمانية من ولدي...) (٣) .

والانحراف الذي حصل عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام لم ينحصر في إقصائهم عن الحكم والولاية فقط، بل انتهى إلى الجهل بأحكام الشريعة التي كان الأئمّة هم المرجع الواقعي والصحيح للتعرّف عليها.

فالإمام ليس وليّاً للأمر وحاكماً على البلاد والعباد فحسب، وإنّما هو مصدر يرجع إليه لفهم الشريعة وتبيين أحكامها، باعتبار معرفته التامة بالشريعة الخاتمة وارتباطه الوثيق بمصادرها الحقيقيّة.

وكما أقصى الحكّام أئمّة أهل البيت عليهم السلام عن الحكم والولاية; حاولوا كذلك نفي مرجعيتهم الدينية والعلميّة وإبعاد الناس عنهم، لذلك اهتمّ الأئمّة

ــــــــــــــ

(١) أمالي الصدوق: ١١٢، الاحتجاج: ٣١٧.

(٢) تأريخ دمشق : الحديث ٢١.

(٣) كفاية الأثر : ٢٣٦ ـ ٢٣٧.


وأتباعهم بإرشاد الناس إلى هذا المعين الصافي للشريعة الإسلامية كي ينهلوا منه، وكان اهتمام الإمام السجاد عليه السلام بليغاً بهذا الأمر حتى قال عليه السلام لرجل شاجره في مسألة شرعية فقهية:(يا هذا، لو صرت إلى منازلنا لأريناك آثار جبرئيل في رحالنا، أيكون أحدٌ أعلم بالسنّة منّا) (١) .

وقال عليه السلام : (إنّ دين الله لا يُصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقاييس الفاسدة، لا يُصاب إلاّ بالتسليم، فمن سلّم لنا سَلِم، ومن اقتدى بنا هُدي، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك، ومن وجد في نفسه ـ ممّا نقوله أو نقضي به ـ حَرَجاً كفر بالّذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم وهو لا يعلم) (٢) .