أمعن الخليفة عثمان بن عفان في التنكيل بالمعارضين والمندّدين بسياسته غير مراع حرمة أو كرامة أحد من صحابة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الذين طالتهم يداه، فصبّ عليهم جام غضبه وبالغ في ظلمهم وإرهاقهم، وكان أبو ذر الغفاري - وهو أقدم أصحاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الذين سبقوا إلى الإسلام - واحداً من المندّدين بسياسة عثمان والرافضين لها، وقد نهاه عثمان عن ذلك فلم ينته، فالتاع عثمان وضاق به ذرعاً فأبعده إلى الشام، وفي الشام أخذ أبو ذر يوقظ الناس ويدعوهم إلى الحذر من السياسة الأُموية التي كان ينتهجها معاوية ابن أبي سفيان والي عثمان الأموي على الشام.

لقد غضب معاوية على حركة أبي ذرّ وكتب إلى عثمان يخبره بخطره عليه، فاستدعاه إلى المدينة، لكن هذا الصحابي الجليل واصل مهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتحذير من خطر الأُموية الدخيلة على

____________________

(1) نافجاً حضنيه: رافعهما، والحضن: مابين الإبط والكشح.

(2) النثيل: الروث وقذر الدواب.

(3) المعتلف: موضع العلف.

(4) الخضم: أكل الشيء الرطب.

(5) النبِتة - بكسر النون -: كالنبات في معناه.

(6) انتكث عليه فتله: انتقض.

(7) أجهز عليه: تمّم قتله.

(8) كبت به: من كبا الجواد إذا سقط بوجهه.

(9) البِطنة - بالكسر -: البطر والأشر والتخمة.


الإسلام والمسلمين، فرأى عثمان أنّ خير وسيلة للتخلّص من معارضة أبي ذر هي نفيه إلى جهة نائية لا سكن فيها، فأمر بإبعاده إلى الربذة موعزاً إلى مروان بن الحكم بأن يمنع المسلمين من مشايعته وتوديعه، ولكنّ أهل الحقّ أبوا إلاّ مخالفة عثمان، فقد انطلق لتوديعه - بشكل علني - الإمام علي عليه السلام والحسنان عليهما‌ السلام وعقيل وعبد الله بن جعفر وعمّار بن ياسر رضي الله عنهم. وقد نقل المؤرّخون كلمات حكيمة وساخنة للمودّعين استنكروا خلالها الحكم العثماني الجائر ضدّه، وقد جاء في كلمة الإمام الحسين عليه السلام ما نصّه:

يا عمّاه! إنّ الله تبارك وتعالى قادر أن يغيّر ما قد ترى، إنّ الله كلّ يوم هو في شأن، وقد منعك القوم دنياهم، ومنعتهم دينك، فما أغناك عمّا منعوك، وأحوجهم إلى ما منعتهم؟ فاسأل الله الصبر، واستعذ به من الجشع والجزع، فإنّ الصبر من الدين والكرم، وإنّ الجشع لا يقدّم رزقاً والجزع لا يؤخّر أجلاً(1) .

وبكى أبو ذر بكاءً مرّاً، فألقى نظرة الوداع الأخيرة على أهل البيت عليهم السلام الذين أخلص لهم الودّ وأخلصوا له، وخاطبهم بقوله: (رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة، إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ما لي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم، إنّي ثقلت على عثمان بالحجاز كما ثقلت على معاوية بالشام، وكره أن أجاور أخاه وابن خاله بالمصرين فاُفسد الناس عليهما فسيّرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلاّ الله، والله ما أريد إلاّ الله صاحباً، وما أخشى مع الله وحشة)(2) .

____________________

(1) بحار الأنوار: 22 / 412، وراجع: مروج الذهب: 2 / 350.

(2) المصدر السابق.