بعد أن مضت عدّة أشهر على المواجهة بين جيش الإمام علي عليه السلام وجيش معاوية، وبعد الخسائر الكبيرة التي لحقت بالجانبين، أوشك جيش الحقّ بقيادة أمير المؤمنين عليه السلام على تحقيق النصر ووضع حدٍّ لهذا النزف الذي أوجده معاوية في جسم الأمة الإسلامية، إلاّ أنّ عمرو بن العاص أنقذ جيش معاوية من الهزيمة المؤكدة، عندما دعا هذا الجيش إلى رفع المصاحف على الرماح والمطالبة بتحكيم القرآن بين الجانبين .

واضطرّ الإمام علي عليه السلام لقبول التحكيم بعد أن مارس جمع من المقاتلة ضغوطاً كبيرة عليه، فقد انطلت عليهم خدعة ابن العاص بسبب جهلهم، كما وظّف المنافقون والانتهازيون القضية لتدعيم ضغوط الجهلة على الإمام المظلوم عليه السلام .

وبعد أن انخدع أبو موسى الأشعري ـ ممثّل العراقيّين ـ بحيلة عمرو بن العاص ـ ممثّل الشاميين ـ في قضيّة التحكيم; التفت الذين فرضوا التحكيم

__________

(١) يهدّني : أي يهلكني .

(٢) أنفس : أبخل .

(٣) حياة الإمام الحسن : ١ / ٤٩٧ .


على الإمام عليه السلام إلى الخطأ الجسيم الذي وقعوا فيه، فتوجّهوا إلى الإمام علي عليه السلام يطلبون منه أن ينقض تعهداته التي أمضاها استجابة لضغوطهم، وأن يستأنف الحرب مع معاوية، وفوق ذلك كلّه اعتبروا أنّ الإمام عليه السلام أخطأ بقبوله التحكيم، فرفعوا شعار "لا حكم إلاّ لله"، الأمر الذي بات ينذر باضطراب آخر وفاجعة جديدة في أوساط جيش الإمام علي عليه السلام .

ومن هنا رأى الإمام عليه السلام ضرورة الحيلولة دون وقوع الفاجعة، وذلك بأن يدعو شخصاً يتمتّع بثقة الجميع واحترامهم ليلقي فيهم خطاباً يتضمّن إبطالاً لحكم أبي موسى الأشعري بالدليل والبرهان، ويبيّن لهم مشروعية القبول بأصل التحكيم، فاختار الإمام عليه السلام ابنه الإمام الحسن عليه السلام فقال له :قم يا بنيّ، فَقُل في هذين الرجلين عبد الله بن قيس (يعني: أبو موسى الأشعري) وعمرو بن العاص ، فقام الإمام الحسن عليه السلام فاعتلى أعواد المنبر، وهو يقول : "أيّها الناس! قد أكثرتم في هذين الرجلين، وإنّما بعثا ليحكما بالكتاب على الهوى، فحكما بالهوى على الكتاب، ومن كان هكذا لم يسمّ حكماً ولكنّه محكوم عليه، وقد أخطأ عبد الله ابن قيس إذ جعلها لعبدالله بن عمر فأخطأ في ثلاث خصال: واحدة أنّه خالف أباه إذ لم يرضه لها ولا جعله من أهل الشورى، وأخرى أنّه لم يستأمره في نفسه (١) ، وثالثها أنّه لم يجتمع عليه المهاجرون والأنصار الذين يعقدون الإمارة ويحكمون بها على الناس .

وأمّا الحكومة فقد حكّم النبي صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم سعد بن معاذ في بني قريضة فحكم بما يرضى الله به، ولا شك لو خالف لم يرضه رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم " (٢) .

لقد عرض الإمام الحسن عليه السلام في خطابه الرائع أهم النقاط الحسّاسة التي

__________

(١) وفي رواية ابن قتيبة في الإمامة والسياسة : ١ / ١٤٤ "أنه لم يستأمر الرجل في نفسه ولا علم ما عنده من رد أو قبول".

(٢) حياة الإمام الحسن : ١ / ٥٣٠ ـ ٥٣٢ .


هي محور النزاع ومصدر الفتنة، فأبان عليه السلام أنّ المختار للتحكيم إنّما يتبع قوله، ويكون رأيه فيصلاً للخصومة فيما إذا حكم بالحقّ، ولم يخضع للنزعات والأهواء الفاسدة، وأبو موسى لم يكن في تحكيمه خاضعاً للحقّ، وإنّما اتّبع هواه فرشّح عبد الله بن عمر للخلافة، مع أنّ أباه كان لا يراه أهلاً لها، مضافاً إلى أنّ الشرط الأساسي في الانتخاب اجتماع المهاجرين والأنصار على اختياره ولم يحصل ذلك له، كما أعرب عليه السلام في خطابه عن مشروعية التحكيم بالأمر الذي أنكرته الخوارج، مستدلاً عليه بتحكيم النبي صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم لسعد بن معاذ في بني قريضة .