بعد الأحداث المتغيّرة والمؤلمة والمعارك الدامية التي خاضها النبيّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم والمسلمون مع قريش واليهود ؛ تمكّنت الرسالة الإسلاميّة أن تخطو خطوات بعيدة المدى تحقّق من خلالها للمسلمين كياناً واضحاً ووجوداً مستقلاً وقوة لابدّ من حسابها في شتى الميادين .

وكان المسلمون يشغفون شوقاً لزيارة الكعبة ويتذكّرونها كلّما وقفوا في صلاتهم متّجهين نحوها في هذا الوقت من عمر الرسالة الإسلامية عزم النبيّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم على أداء فريضة من فرائض الإسلام بأمر من الله ، فقرّر الحجّ واتّخذ كلّ الإجراءات والتدابير اللازمة لمثل هذه الخطوة حتّى أعلن صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم مراراً أنّه لا يريد الحرب ضد قريش أو غيرها .

ــــــــــــ

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ك ١٩ / ٦١ .

(*) كان خروج النبي لأداء العمرة في مطلع ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة المباركة .


ولمّا علمت قريش بالخبر ، اجتمعت كلمتهم على منعه صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم من دخول مكّة مهما كلّفهم ذلك من جهد وخسائر ، وأرسلوا خالد بن الوليد على رأس جماعة من الفرسان ليقطع عليه الطريق .

وحين نزل النبيّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم والمسلمون منطقة (الجحفة) ؛ كان الماء قد نفد لديهم ولم يجدوا ماءً ، فأرسل صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم الروايا فلم يتمكّنوا من جلب الماء لتردّدهم وخوفهم من قريش ، عندها دعا صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم عليّاً عليه السلام وأرسله بالروايا لجلب الماء ، وخرج السقاة وهم لا يشكّون في رجوعه لمّا رأوا من رجوع من تقدّمه ، فخرج عليٌّ عليه السلام حتى وصل (الحرار) واستقى ، ثمّ أقبل بها إلى النبيّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ولها زَجَل ، فلمّا دخل كبّر النبيّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ودعا له بالخير(١) .

ثم إن قريشاً اضطرّت النبيّ أن يعدل عن الطريق المؤدّي إلى مكّة ، وانحرف به رجل من (أسلم) إلى طريق وعرة المسالك خرجوا منها إلى ثنية المراد ، فهبط الحديبيّة ، وحاولت قريش أكثر من مرّة التحرّش بالمسلمين ومهاجمتهم بقيادة خالد بن الوليد ، لكنّ عليّاً عليه السلام وجماعة من المسلمين الأشدّاء كانوا يصدّون تلك الغارات ويفوّتون الفرصة على قريش في جميع محاولاتها العدوانية(٢) .

واضطرّت قريش أن تفاوض النبيّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم بعدما رأت العزيمة والإصرار منه ومن المسلمين على دخول مكّة ، فأرسلت إليه مندوبين عنها للتفاوض ، وكان آخرهم سهيل بن عمر وحويطب من بني عبد العزّى ويبدو أنّ المفاوضات لم

ــــــــــــ

(١) الإرشاد : ١٠٨ ، الفصل ٣٠ الباب ٢ ، وكشف الغمة : ١ / ٢٨٠ باب المناقب مثله .

(٢) سيرة الأئمّة الاثني عشر للحسني : ١ / ٢١٧ نقلاً عن ابن إسحاق .


تنحصر بخصوص قضيّة الدخول إلى مكّة في ذلك العام(١) بل تناولت أموراً أخرى لصالح الطرفين .

فقد روي أنّ عليّاً عليه السلام قال : لمّا كان يوم الحديبيّة ؛ خرج إلينا ناس من المشركين فقالوا لرسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم : يا محمد ! خرج إليك أناس من أبنائنا وإخواننا وأرقّائنا وليس لهم فقه في الدين ، وإنّما خرجوا فراراً من أموالنا وضياعنا فارددهم إلينا ، فقال : إذا لم يكن لهم فقه في الدين كما تزعمون سنفقّههم فيه ، وأضاف إلى ذلك : يا معشر قريش ! لتنتهنّ أو ليبعثنّ الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف قد امتحن الله قلبه بالإيمان ، فقال له أبو بكر وعمر والمشركون : من هو ذلك الرجل يا رسول الله ، فقال صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم : هو خاصف النعل ، وكان قد أعطى نعله لعليّ عليه السلام يخصفها(٢) .

وبعد أن تمّ الاتّفاق بين الطرفين على بنود الصلح ؛ دعا رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم عليّ بن أبي طالب فقال له :اُكتب يا عليّ ، بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال سهيل : أمّا الرحمن فو الله ما أدري ما هو لكن اكتب باسمك اللّهمّ ، فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلاّ بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال النبيّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم :اُكتب باسمك اللّهمّ ، هذا ما قاضى عليه محمّد رسول الله ، فقال سهيل : لو كنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب محمّد بن عبد الله ، فقال النبيّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم :إنّي لرسول الله وإن كذّبتموني ، ثمّ قال لعليّ عليه السلام : امحِ رسول الله ، فقال عليه السلام :يا رسول الله ، إنّ يدي لا تنطلق لمحو اسمك من النبوّة ، فأخذه رسول الله فمحاه ، ثمّ قال له : أما إنّ لك مثلها وستأتيها وأنت مضطرّ لذلك (٣) .

ــــــــــــ

(١) كنز العمال : ١٠ / ٤٧٢ ، غزوة الحديبية .

(٢) ينابيع المودة للقندوزي : ٥٩ ، وكنز العمال : ١٣ / ١٧٣ ، وفضائل الخمسة للفيروزآبادي : ٢ / ٢٣٧ .

(٣) تأريخ الطبري : ٢ / ٢٨٢ ط مؤسسة الأعلمي ، والكامل لابن الأثير : ٢ / ٤٠٤ .