نجد في سيرة الأئمّة عليهم السلام العديد من الأدلّة التي أوضحوا من خلالها للناس سبب الاختلاف في أساليبهم في قيادة الحركة الإسلامية من إمام لآخر.

فالإمام السجاد عليه السلام قال له عبّاد البصري وهو في طريق مكّة: تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحجّ ولينه، و( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ) (١) فأجابه الإمام عليه السلام : إقرأ بعدها:( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) ، ثمّ قال عليه السلام :إذا ظهر هؤلاء ـ يعني المؤمنين حسب مواصفاتهم في الآية ـلم نؤثر على الجهاد شيئاً (٢) .

وبهذه الإجابة حدّد الإمام عليه السلام بشكل صارم سياسته ولون كفاحه، ووجهة حركته في عصره، ومن ثمّ الأسباب الموجبة لذلك المسار، فإنّ عدوله عن الكفاح المسلّح والمواجهة العسكرية للحكم الأموي لم تأتِ حبّاً في الحياة ونعيمها كما تصوّر عبّاد البصري، وإنّما جاء ذلك لأنّ مستلزمات العمل العسكري الناجح غير متوفرة، ولأنّ النتائج من أيّ تحدٍّ للسلطان في تلك الظروف تكون عكسيّةً تماماً.

ــــــــــــــ

(١) التوبة (٩): ١١١.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ٢ / ١٤١، ومناقب آل أبي طالب : ٤ / ١٧٣ باختلاف يسير في الألفاظ.


وبعد ملحمة كربلاء مباشرةً تبنّى الإمام السجاد عليه السلام وكرائم أهل البيت كزينب واُمّ كلثوم ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ سياسة إسقاط الأقنعة التي كان الأمويون قد غطّوا وجوه سياستهم الكالحة الخطيرة بها، وحمّلوا الأمة كذلك مسؤوليتها التاريخية أمام الله والرسالة.

ومن هنا نلاحظ بوضوح أنّ الخطب والتصريحات التي صدرت عن الإمام زين العابدين عليه السلام وعقائل أهل البيت عليهم السلام في العراق قد انصبّت على مخاطبة ضمائر الناس كمجموع، وإلفات نظر الناس إلى جسامة الخطر الذي حاق بهم، وإلى حجم الجريمة التي ارتكبتها بنو أمية بحقّ رسالة الله تعالى.

وفي الشام ركّزت كلمات الإمام السجّاد عليه السلام على التعريف بالسبايا ذاتهم، وأنّهم آل الرسول صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ، ثمّ فضح الحكم الأموي وتعريته أمام أهل الشام الذين أضلّهم عن رؤية الواقع.

وقبل دخوله المدينة عمل الإمام السجاد عليه السلام على إثارة الرأي والوعي العام الإسلامي وتوجيهه إلى محنة الرسالة التي تمثّلت في فاجعة الطفّ، فقد كان خطابه الذي ألقاه بالناس يستبطن هذه المعاني.

ولقد أعطت تجربة كربلاء مؤشّراً عملياً على أنّ الأمة المسلمة في حالة ركود وتبلّد ممّا جعل الروح الجهادية لديها في حالة غياب إن لم نقل إنّها كانت معدومة نهائياً، ومن أجل ذلك فإنّ السجاد عليه السلام ـ باعتباره إمام الأمة الذي انتهت إليه مرجعية الأمة ـ أخذ تلك الظاهرة بعين الاعتبار، ولذلك مارس دوره من خلال العمل على تنمية التيار الرسالي في الأمة، وتوسيع دائرته في الساحة الإسلامية، والعمل على رفع مستوى الوعي الإسلامي والانفتاح العملي في قطاعات الأمة المختلفة، وخلق قيادات متميزة تحمل الفكر الإسلامي النقي، لا الفكر الذي يُشيعه الحكم الأموي.

ولهذا النهج مبرّراته الموضوعية، فإنّ قوى الانحراف عبر سنوات عديدة من سيطرتها على مراكز التوجيه الفكري والاجتماعي توفّرت على صنع أجيال ذائبة في الانحراف، الأمر الذي أصبح فيه من المتعذّر على التيار الإسلامي السليم مواجهتها، بالنظر لضخامة تلك القوى، وتوفّر الغطاء الواقي لها من مؤسسات وقدرات; ولتعرّض التيار الإسلامي ذاته للخسائر المتتالية.

ومن هنا، فإنّ أمر تكثيف التيار الإسلامي وإثرائه كمّاً وكيفاً مسألة لا تقبل التأجيل، ما دام أمر بقاء الرسالة حيّة ـ فكراً وعملاً ـ متوقّفاً على بقاء سلامة هذا التيار في كيان الأمة وقواعدها الشعبية، طالما لم يتسنّ له تسلّم المرجعية العامة في الإدارة والحكم.


ولقد نجحت خطط الإمام عليه السلام على شتّى الأصعدة وحسبما خطّط لها، وفيما يلي مصداقان عمليان على ذلك:

ففي المجال الاجتماعي أثمرت خطّة الإمام عليه السلام حيث حظي بإجلال القطّاعات الواسعة من الأمة وولائها، والمصادر التاريخية مجمعة على ذلك. قال ابن خلّكان: لمّا حجّ هشام بن عبد الملك في أيام أبيه، فطاف وجهد أن يصل الحجر ليستلمه، فلم يقدر عليه لكثرة الزحام، فنُصِب له منبر وجلس عليه ينظر إلى الناس، ومعه جماعة من أعيان أهل الشام، فبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنهم)، وكان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرجاً، فطاف بالبيت، فلمّا انتهى إلى الحجر تنحّى له الناس حتى استلم، فقال رجل من أهل الشام: من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه، مخافة أن يرغب فيه أهل الشام، وكان الفرزدق حاضراً فقال: أنا أعرفه، فقال الشامي: من هذا يا أبا فراس؟ فقال:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرمُ

هذا ابنُ خير عبادِ الله كُلِّهمُ

هذا النقيُّ التقيُّ الطاهرُ العلَمُ

إذا رأتْهُ قريشٌ قالَ قائِلُها

إلى مَكارمِ هذا يَنتهي الكرَمُ

مشتقَّةٌ من رسولِ الله نبعتُه

طابتْ عناصرُه والْخِيمُ والشِّيَمُ

هذا ابنُ فاطمةٍ إن كنتَ جاهلَهُ

بِجَدِّه أنبياءُ الله قد خُتِموا

الله شرَّفَهُ قِدْماً وعضَّله

جرى بذاك له في لوحِهِ القلَمُ

فليسَ قولُك مَنْ هذا بِضائِرهِ

أَلْعُرْبُ تَعرف مَن أنكرتَ والعجَمُ

مِنْ مَعشرٍ حبُّهمْ ديٌ ، وبُغضُهُمُ

كفرٌ ، وقربهمُ منجى ومُعْتَصَمُ

إنْ عُدَّ أهلَ التُّقى كانوا أئمتهم

أو قيل مَن خيرُ أهلِ الأرضِ قيلَ هُمُ

أيُّ الخلائقِ ليستْ في رقابهمُ

لأَوَّلِيَّةِ هَذا أولُهُ نِعَمُ

مَن يَعُرِفِ الله يَعْرِفْ أَوَّلِيَّة ذا

أَلدِّيْنَ مِنْ بَيْتِ هَذا نَالَهُ الأُمَمُ(١)

ــــــــــــــ

(١) القصيدة طويلة وهي مذكورة في كثير من المصادر التأريخية والأدبية، اُنظر : وفيات الأعيان لابن خلّكان: ٦ / ٩٦، الإرشاد للمفيد: ٢/١٥٠ ، ١٥١ عن محمّد بن إسماعيل بن جعفر الصادق عليه‌السلام وراجع غيرهما من المصادر في أوائل الفصل الأوّل من الباب الأوّل.


إنّ هذه الحادثة توضّح أنّ الإمام عليه السلام كان قد حظي بولاء جماهيريٍّ حقيقيٍّ واسع النطاق، بشكل جعل ذلك الولاء يتجسّد حيّاً حتى في أقدس ساعة، وفي موقف عباديّ مشهود، فما أن تلتقي الجماهير الكثيفة بإمامها الحقّ; حتى توسّع له، لكي يؤدّي مناسكه دون أيّة مضايقة عفوية منها، بالرغم من أنّ الأمة تدرك عداء الحكم الأموي لأهل البيت عليهم السلام وما يترتّب على ذلك العداء من موقف تجاه أنصار أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم.

وحقّق النشاط العلمي للإمام عليه السلام غاياته المتوخّاة، فالمسجد النبويّ الشريف ودار الإمام عليه السلام شهدا طوال خمسة وثلاثين عاماً ـ وهي فترة إمامته ـ نشاطاً فكرياً من الطراز الأول، حيث استقطب الإمام عليه السلام طلاّب المعرفة الإسلامية في جميع حقولها، لا في المدينة المنورة ومكّة المكرمة وحدهما، وإنّما في الساحة الإسلامية بأكملها، حتى استطاع أن يخلق نواة مدرسة فكرية لها طابعها ومعالمها المميّزة، وتخرّج منها قادة فكر ومحدّثون وفقهاء.

إنّ انفصام عرى الشيعة بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وتَشَتُّت قُواهم كان من أعظم الأخطار التي واجهها الإمام زين العابدين عليه السلام باتّجاه استجماع القوى وتكميل الإعداد من جديد، وقد كان هذا الهدف بحاجة إلى إعداد نفسي وعقيدي وإحياء الأمل في القلوب وبثّ العزم في النفوس.

وقد تمكّن الإمام زين العابدين عليه السلام بعمله الهادئ والمنظّم أن يشرف على تكميل هذه الاستعادة، وعلى هذا الإعداد بكل قوّة وبحكمة وبسلامة وجدّ.

وقد أطلق الإمام عليه السلام نهجاً جهادياً ينهض بأعباء متطلبات المرحلة الخطيرة آنذاك. ويمكن الحديث عن هذا النهج عبر مستويات متعدّدة :