تمثَّلَ التحصين العقائدي الذي مارسه الإمام عليه السلام في تبيان وشرح وتعميق المفاهيم العقائدية بشكل خاص والدينية بشكل عام .

كما تمثّل في دفع الشبهات والإثارات الفكرية التي كانت تتداولها المدارس الفكرية آنذاك .

والنصوص التي أُثرت عن الإمام عليه السلام حول الرؤية والجبر والاختيار والتفويض والرد على الشبهات المثارة حول آيات القرآن الكريم تفيد تصدّي الإمام عليه السلام لهذا التحصين العقائدي في الساحة الإسلامية العامة والخاصة معاً .

ولم يكتف الإمام عليه السلام بالردّ على الشبهات العامة بل تصدّى للردّ الخاص على ما كان يُثار من تساؤلات خاصة تعرض لأفراد من أتباعه أو ممّن كان يتوسّم فيهم الإمام عليه السلام الانقياد للحق كبعض الواقفة الذين اهتدوا بفضل توجيهات الإمام عليه السلام .

قال علي بن مهزيار : وردت العسكر وأنا شاكّ في الإمامة فرأيت السلطان قد خرج إلى الصيد في يوم الربيع إلاّ أنّه صائف والناس عليهم ثبات الصيف وعلى أبي الحسن لباد وعلى فرسه تجفاف لبود وقد عقد ذنب الفرس ، والناس يتعجّبون منه ويقولون ألا ترون هذا المدني ما قد فعل بنفسه ، فقلت في نفسي : لو كان هذا إماماً ، ما فعل هذا .

فلمّا خرج الناس إلى الصحراء لم يلبثوا أن ارتفعت سحابة عظيمة هطلت فلم يبق أحد إلاّ ابتلّ حتى غرق بالمطر وعاد عليه السلام وهو سالم من جميعه ، فقلت في نفسي : يوشك أن يكون هو الإمام ، ثم قلت : أُريد أن اسأله عن الجنب إذا غرق في الثوب فقلت في نفسي : إن كشف وجهه فهو الإمام.

فلمّا قرب منّي كشف وجهه ثم قال : إن كان عرق الجنب في الثوب وجنابته من حرام لا يجوز الصلاة فيه ، وإن كان جنابته من حلال فلا بأس .


فلم يبق في نفسي بعد ذلك شبهة(١) .

وروى هبة الله ابن أبي منصور الموصلي أنّه كان بديار ربيعة كاتب نصراني وكان من أهل كفرتوثا يسمّى يوسف بن يعقوب وكان بينه وبين والدي صداقة ، قال : فوافى فنزل عند والدي فقال له : ما شأنك قدمت في هذا الوقت ؟ قال : دعيت إلى حضرة المتوكّل ولا أدري ما يراد منّي إلاّ أنّي اشتريت نفسي من الله بمائة دينار ، وقد حملتها لعلي بن محمد بن الرضا عليهم السلام معي فقال له والدي : قد وفّقت في هذا .

قال : وخرج إلى حضرة المتوكّل وانصرف إلينا بعد أيام قلائل فرحاً مستبشراً فقال له والدي : حدثني حديثك ، قال : صرت إلى سرّ مَن رأى وما دخلتها قطّ فنزلت في دار وقلت أُحبّ أن أُوصل المائة إلى ابن الرضا عليه السلام قبل مصيري إلى باب المتوكل وقبل أن يعرف أحد قدومي ، قال : فعرفت أنّ المتوكل قد منعه من الركوب وأنّه ملازم لداره ، فقلت : كيف أصنع ؟ رجل نصراني يسأل عن دار ابن الرضا ؟ لا آمن أن يبدر بي فيكون ذلك زيادة فيما أُحاذره .

قال : ففكّرت ساعة في ذلك فوقع في قلبي أن أركب حماري وأخرج في البلد ولا أمنعه من حيث يذهب لعلّي أقف على معرفة داره من غير أن اسأل أحداً ، قال : فجعلت الدنانير في كاغذة وجعلتها في كمّي وركبت فكان الحمار يتخرّق الشوارع والأسواق يمرّ حيث يشاء إلى أن صرت إلى باب دار ، فوقف الحمار فجهدت أن يزول فلم يزل ، فقلت للغلام : سل لمَن هذه الدار ، فقيل : هذه

ــــــــــــــ

(١) المناقب : ٢/٤٥١ .


دار ابن الرضا ! فقلت : الله أكبر دلالة والله مقنعة .

قال : وإذا خادم أسود قد خرج ، فقال : أنت يوسف بن يعقوب ؟ قلت : نعم .

قال : انزل ، فنزلت فأقعدني في الدّهليز فدخل ، فقلت في نفسي : هذه دلالة أخرى من أين عرف هذا الغلام اسمي وليس في هذا البلد مَن يعرفني ولا دخلته قط .

قال : فخرج الخادم فقال : مائة دينار التي في كمّك في الكاغذ هاتها ! فناولته إيّاها ، قلت : وهذه ثالثة .

ثم رجع إليّ وقال : ادخل فدخلت إليه وهو في مجلسه وحده فقال : يا يوسف ما آن لك ؟ فقلت : يا مولاي قد بان لي من البرهان ما فيه كفاية لمَن اكتفى .

فقال :هيهات إنّك لا تسلم ولكن سيسلم ولدك فلان ، وهو من شيعتنا ، يا يوسف إنّ أقواماً يزعمون أنّ ولايتنا لا تنفع أمثالكم ، كذبوا والله إنّها لتنفع أمثالك امض فيما وافيت له فإنّك سترى ما تحبّ .

قال : فمضيت إلى باب المتوكّل فقلت كلّ ما أردت فانصرفت .

قال هبة الله : فلقيت ابنه بعد هذا ـ يعني بعد موت والده ـ والله وهو مسلم حسن التشيّع فأخبرني أنّ أباه مات على النصرانية ، وأنّه أسلم بعد موت أبيه ، وكان يقول : أنا بشارة مولاي عليه السلام (١) .

وروى أبو القاسم البغدادي ، عن زرارة قال : أراد المتوكّل : أن يمشي علي ابن محمد بن الرضا عليهم السلام يوم السّلام فقال له وزيره : إنّ في هذا شناعة عليك وسوء قالة فلا تفعل ، قال : لا بدّ من هذا .

قال : فإن لم يكن بُدٌّ من هذا فتقدّم بأن يمشي القوّاد والأشراف كلّهم ، حتى لا يظن الناس أنّك قصدته بهذا دون غيره ، ففعل ومشى عليه السلام وكان الصيف فوافى الدهليز وقد عرق .

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٥٠/١٤٢ .


قال : فلقيته فأجلسته في الدهليز ومسحت وجهه بمنديل وقلت : ابن عمّك لم يقصدك بهذا دون غيرك ، فلا تجد عليك في قلبك .

فقال :إيهاً عنك ( تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) .

قال زرارة : وكان عندي معلّم يتشيّع وكنت كثيراً أمازحه بالرافضيّ فانصرفت إلى منزلي وقت العشاء وقلت : تعال يا رافضي حتى أُحدثك بشيء سمعته اليوم من إمامكم ، قال لي : وما سمعت ؟ فأخبرته بما قال ، فقال : أقول لك فاقبل نصيحتي .

قلت : هاتها ، قال : إن كان عليّ بن محمد قال بما قلت فاحترز واخزن كلّ ما تملكه فإنّ المتوكّل يموت أو يُقتل بعد ثلاثة أيام .

فغضبت عليه وشتمته وطردته من بين يديّ فخرج .

فلمّا خلوت بنفسي ، تفكّرت وقلت : ما يضرّني أن آخذ بالحزم ، فإن كان من هذا شيء كنت قد أخذت بالحزم ، وإن لم يكن لم يضرّني ذلك ، قال : فركبت إلى دار المتوكلّ فأخرجت كل ما كان لي فيها وفرّقت كلّ ما كان في داري إلى عند أقوام أثق بهم ، ولم أترك في داري إلاّ حصيراً أقعد عليه .

فلمّا كانت الليلة الرابعة قُتل المتوكل وسلمت أنا ومالي وتشيّعت عند ذلك ، فصرت إليه ، ولزمت خدمته ، وسألته أن يدعو لي وتواليته حق الولاية(١) .

وبإسناده عنه قال : اجتمعنا أيضاً في وليمة لبعض أهل سُرّ مَن رأى وأبو الحسن معنا فجعل رجل يعبث ويمزح ولا نرى له إجلالاً ، فاقبل على جعفر وقال : إنّه لا يأكل من هذا الطعام وسوف يرد عليه من خبر أهله ما ينغّص عليه عيشه ، فقدمت المائدة فقال : ليس بعد هذا خبر ،وقد بطل قوله فو الله لقد

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٥٠/١٤٧ .


غسل الرجل يده وأهوى إلى الطعام فإذا غلامه قد دخل من باب البيت يبكي وقال : الحق أُمّك فقد وقعت من فوق البيت وهي بالموت ، فقال جعفر : قلت : والله لا وقفت بعد هذا وقطعت عليه (١) .