ومن كلام له(عليه السلام)
قاله عند تلاوته:
(يَا أَيُّهَا الاِْنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ)


  أَدْحَضُ مَسْؤُول حُجَّةً
(1)، وَأَقْطَعُ مُغْتَرٍّ مَعْذِرَةً، لَقَدْ أَبْرَحَ جَهَالَةً بِنَفْسِهِ(2).
  يَا أَيُّهَا الاِْنْسَانُ، مَا جَرَّأَكَ عَلَى ذَنْبِكَ، وَمَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ، وَمَا آنَسَكَ بِهَلَكَةِ نَفْسِكَ؟ أَمَا مِنْ دَائِكَ بُلوُلٌ
(3)، أَمْ لَيْسَ مِنْ نَوْمَتِكَ يَقَظَةٌ؟ أَمَا ترْحَمُ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَرْحَمُ مِنْ غَيْرِكَ؟ فَلَرُبَّمَا تَرَى الضَّاحِيَ(4) مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ فَتُظِلُّهُ، أَوْ تَرَى الْمُبْتَلَى بِأَلَم يُمِضُّ جَسَدَهُ(5) فَتَبْكِي رَحْمَةً لَهُ! فَمَا صَبَّرَك عَلَى دَائِكَ، وَجَلَّدَكَ عَلَى مُصَابِكَ، وَعَزَّاكَ عَنِ الْبُكَاءِ عَلَى نَفْسِكَ وَهِيَ أَعَزُّ الاَْنْفُسِ عَلَيْكَ! وَكَيْفَ لاَ يُوقِظُكَ خَوْفُ بَيَاتِ نِقْمَة(6)، وَقَدْ تَوَرَّطْتَ بمَعَاصِيهِ مَدَارِجَ سَطَوَاتِهِ!
____________
  1. دَحَضَت الحجّةُ ـ كمنع ـ : بَطَلَت.
  2. أبرح جهالة بنفسه أي: أعجبته نفسه بجهالتها.
  3. بَلّ مرضُهُ يَبِلّ ـ كقلّ يقلّ ـ بُلولاً: حسنت حاله بعد هُزال.
  4. ضحا ضَحْواً: برز في الشمس.
  5. يُمِضّ جسده: يبالغ في نهكه.
  6. بَيَات نِقْمة: أي أن تبيت بنقمة من الله ورزية تذهب بنعيمك وقد وقعت بمعاصيه.



فَتَدَاوَ مِنْ دَاءِ الْفَتْرَةِ فِي قَلْبِكَ بِعَزِيمَة، وَمِنْ كَرَى
(1) الْغَفْلَةِ فِي نَاظِرِكَ بِيَقَظَة، وَكُنْ لله مُطِيعاً، وَبِذِكْرِهِ آنِساً، وَتَمَثَّلْ(2) فِي حَالِ تَوَلِّيكَ(3) عَنْهُ إِقْبَالَهُ عَلَيْكَ، يَدْعُوكَ إِلَى عَفْوِهِ، وَيَتَغَمَّدُكَ(4) بِفَضْلِهِ، وَأَنْتَ مُتَوَلٍّ عنْهُ إِلَى غَيْرِهِ.
  فَتَعَالى مِنْ قَوِيّ مَا أَكْرَمَهُ! وَتَوَاضَعْتَ مِنْ ضَعِيف مَا أَجْرَأَكَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ! وَأَنْتَ فِي كَنَفِ سِتْرِهِ مُقيِمٌ، وَفِي سَعَةِ فَضْلِهِ مَتَقَلِّبٌ، فَلَمْ يَمْنَعْكَ فَضْلَهُ، وَلَمْ يَهْتِكْ عَنْكَ سِتْرَهُ، بَلْ لَمْ تَخْلُ مِنْ لُطْفِهِ مَطْرِفَ عَيْن
(5) فِي نِعْمَة يُحْدِثُهَا لَكَ، أَوْ سَيِّئَة يَسْتُرُهَا عَلَيْكَ، أَوْ بَلِيَّة يَصْرِفُهَا عَنْكَ، فَمَا ظَنُّكَ بِهِ لَوْ أَطَعْتَهُ! وَايْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ هذِهِ الصِّفَةَ كَانَتْ فِي مُتَّفِقَيْنِ فِي الْقُوَّةِ، مُتَوَازِيَيْنِ فِي الْقُدْرَِ، لَكُنْتَ أَوَّلَ حَاكِم عَلى نَفْسِكَ بِذَمِيمِ الاَْخْلاَقِ، وَمَسَاوِىءِ الاَْعَمْالِ.
 
____________
  1. الكَرَى ـ بالفتح والقصر ـ : النوم.
  2. تمثّل: تصور.
  3. تَوَلّيك: إعراضك.
  4. يتغمدك: أي يغمرك ويسترك.
  5. طَرَفَ عينه ـ كضرب ـ : أطبق جفْنَيْها، والمراد من المَطْرَف: اللحظة يتحرك فيها الجفن.



وَحَقّاً أَقُولُ! مَا الدُّنْيَا غَرَّتْكَ، وَلكِنْ بِهَا اغْتَرَرْتَ، وَلَقَدْ كَاشَفَتْكَ الْعِظَاتِ
(1)، وَآذَنَتْكَ(2) عَلَى سَوَاء، وَلَهِيَ بِمَا تَعِدُكَ مِنْ نُزُولِ الْبَلاَءِ بِجِسْمِكَ، وَالنَّقْصِ فِي قُوَّتِكَ، أَصْدَقُ وَأَوْفَى مِنْ أَنْ تَكْذِبَكَ، أَوْ تَغُرَّكَ، وَلَرُبَّ نَاصِح لَهَا عِنْدَكَ مُتَّهَمٌ(3)، وَصَادِق مِنْ خَبَرِهَا مُكَذَّبٌ، وَلَئِنْ تَعَرَّفْتهَا(4) فِي الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ، وَالرُّبُوعِ الْخَالِيَةِ، لَتَجِدَنَّهَا مِنْ حُسْنِ تَذْكِيرِكَ، وَبَلاَغِ مَوْعِظَتِكَ، بِمَحَلَّةِ الشَّفِيقِ عَلَيْكَ، وَالشَّحِيحِ بك(5)! وَلَنِعْمَ دَارُ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِهَا دَاراً، وَمَحَلُّ مَنْ لَمْ يُوَطِّنْهَا(6) مَحَلاًّ! وَإِنَّ السُّعَدَاءَ بالدُّنْيَا غَداً هُمُ الْهَارِبُونَ مِنْهَا الْيَوْمَ.
 
____________
  1. كاشَفَتْكَ العظاتِ ـ بالنصب على نزع الخافض ـ : أظهرت لك العظات أي المواعظ.
  2. آذنتك: أعلمتك على عدل.
  3. رب ناصح لها عندك مُتّهم: رب حادث من حوادثها يلقي إليك النصيحة بالعِبْرة فتتّهمه وهو مخلص.
  4. تعرّفتها: طلبت معرفتها وعاقبة الركون إليها.
  5. الشحيح بك: البخيل بك على الشقاء والهَلَكة.
  6. وطّنه ـ بالتشديد ـ : اتخذه وطناً.



إِذَا رَجَفَتِ الرَّاجِفَةُ
(1)، وَحَقَّتْ(2) بِجَلاَئِلِهَا الْقِيَامَةُ، وَلَحِقَ بِكُلِّ مَنْسَك(3) أَهْلُهُ، وَبِكُلِّ مَعْبُود عَبَدَتُهُ، وَبِكُلِّ مُطَاع أَهْلُ طَاعَتِهِ، فَلَمْ يُجْزَ(4) فِي عَدْلِهِ وَقِسْطِهِ يَوْمَئِذ خَرْقُ بَصَر فِي الْهَوَاءِ، وَلاَ هَمْسُ قَدَم فِي الاَْرْضِ إِلاَّ بِحَقِّهِ، فَكَمْ حُجَّة يَوْمَ ذَاكَ دَاحِضَة، وَعَلاَئِقِ عُذْر مُنْقَطِعَة!
  فَتَحَرَّ
(5) مِنْ أَمْرِكَ مَايَقُومُ بِهِ عُذْرُكَ، وَتَثْبُتُ بِهِ حُجَّتُكَ، وَخُذْ مَا يَبْقَى لَكَ مِمَّا لاَ تَبْقَى لَهُ، وَتَيَسَّرْ(6) لِسَفَرِكَ، وَشِمْ بَرْقَ(7) النَّجَاةِ، وَارْحَلْ مَطَايَا(8) التَّشْمِيرِ.
 
____________
  1. الراجفة: النفخة الاولى حين تهب ريح الفناء فتنسف الارض نسفاً.
  2. حقّت القيامة: وقعت وثبتت بعظائمها.
  3. المَنْسَك ـ بفتح الميم والسين ـ : العبادة أو مكانها. 4. لم يُجْزَ ـ من الجزاء ـ : مبني للمجهول ونائب فاعله «خَرْقُ بصر» و«هَمْسُ قدم»، أي لاتجازَى لمحة البصر تنفذ في الهواء ولا همسة القدم في الارض إلاّ بحق، وذلك بعدل الله.
  5. تَحَرّ: من التحري، أي اطلب ما هو أحرى وأليق.
  6. تيسر: تأهب.
  7. شامَ البرق: لمحه.
  8. رَحَل المطيةَ: وضع عليها رحلها للسفر.



المصدر:
نهج البلاغة